ترجمة الشعر بين الاستحالة والإمكان

محمد آيت ميهوب
قسم اللغة والآداب العربيّة
كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية (تونس)

مقدمة

تمثّل قضيّة ترجمة الشعر أبرز القضايا المتعلّقة بالترجمة وأكثرها مثارا للنقاش بين أطراف متعدّدين من شعراء ونقّاد ومترجمين وقرّاء. وهي تكاد تستقطب كلّ جدل حول الترجمة الأدبيّة وتُتخذ عنوانا للموقف الذي يتبنّاه شخص ما من إمكان الترجمة أو استحالتها، ناقشها قديما “هوراس” والجاحظ وناقشها حديثا “جاكوسبون” و”ميشونيك” وحولها تحوم مجموعة من المصادرات والأحكام المسبقة التي جعلت المواقف حيالها تتسم بطابع ثنائيّ : ففريق، وهو الأغلبيّة المطلقة، يميل أصحابه إلى رفض ترجمة الشعر لاعتقادهم أنّ نقل الشعر من لغة إلى أخرى أشبه بالسراب الخّلب، ويمثّل هذا الفريقَ النقّادُ وعلماء اللغة وعامّةُ القرّاء. أمّا الفريق الثاني، وهو قلّة، فيقرّ أصحابه بصعوبة ترجمة الشعر ولكنّهم لا يرون استحالتها.

ومن الطريف أن نلاحظ أنّه رغم هيمنة الموقف الأوّل طيلة تاريخ الشعر ورغم تكرّس القول باستحالة ترجمة الشعر وكأنّ ذلك أمر بديهيّ، فإنّ ترجمة الشعر مع ذلك لم تنقطع ولم تنِ تتطوّر وتتراكم تجاربها في شتّى اللغات والآداب. ولئن أحجم العرب في أوج ازدهارهم الأدبيّ والحضاريّ عن ترجمة أشعار غيرهم لأسباب سنأتي على ذكرها، فإنّهم منذ عشرينيّات القرن الماضي تفّطنوا إلى ضرورة الإقبال على نقل الشعر الغربيّ إلى اللغة العربيّة وأهميّةِ ذلك في إثراء التجربة الشعريّة العربيّة وتطويرها. فطفقوا ينقلون عيون الشعر الحديث لكبار شعراء الغرب أمثال “بوشكين” و”بودلير”، و”لامرتين”، و”رودزويرث”، و”كيتس”، و”سان جون برس”… فانعكست هذه الترجمات إيجابا على حركة الشعر العربيّ، وساهمت في قلب الذائقة الشعريّة وتثوير بنية القصيدة وتغيير معجمها. ومع ذلك مازال كثير من النقّاد يتمسّكون بالحكم القديم عن استحالة ترجمة الشعر، ومازال كثير من القرّاء يقبلون على القصيدة المترجمة وقد أعدّوا أنفسهم مسبقا لقراءة نصّ رديء بالضرورة ويجعلون مبلغ همّهم إذا كانوا يعرفون النصّ الأصليّ تقصيَّ مظاهر خيانة المترجم وتشويهه القصيدة الأم، اعتبارا منهم أنّ المترجم هو بالضرورة “خائن خوّان” فما بالك إذا كان المترجَم نصّا شعريّا.

لذلك أردنا من هذه الورقة مناقشة هذا الرأي وتبيين حدوده وإبراز وجوه إمكان ترجمة الشعر. وقد اخترنا أن ننطلق في هذه المناقشة من زعيم القائلين باستحالة ترجمة الشعر : أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ.