أمّا الحقيقة الثانية التي لا يعلمها خَــلْق كثير، فهي أنّ جلّ النصوص التشريعية في الجزائر تحرّر باللغة الفرنسية التي يُقال عنها رسميا “لغة أجنبية أولى”، قبل أن تُــترجم إلى العربية. وهو ما يؤكده مثلا عبد المجيد جبار (2000 : 59) في قوله إنّ » المصالح على مسـتوى الحكومة غالبا ما تعمل باللغة الفرنـسية وأنّ النصوص المُحالة على البرلمان مترجـمة. فحيـنما يتولى هذا الأخير دراسة النصوص المترجمة المرفـقة دائما بالنصّ الفرنسي، غالبا ما تحدث أخطاء. ولعلّ هذا مصير من يعمل بلغـتين: الرسمية وشـبه الرسمية«.
وبشأن المراسيم التـنـفيذية التي تصدرها الحكومة وكذا بعض القوانين المتعلّقة بتسيير المؤسّسات الاقتصادية والثـقافية في البلاد، فـغالبا ما تكون محرّرة بالفرنسية ثم تُــترجم إلى العربية في وقت لاحق (QUEFFÉLEC، DERRADJI، 2002 : 70).
ذلك أنه لم يكن من السهل على الجزائر – مباشرة بعد خروج الاحتلال الذي سَيّر البلاد بقوانينه طيلة 132 سنة – أن تُـشرِّع وفـق نظام قانوني خاص بها، وهي دولة فـتية بإطارات قليلة جُلّها مُكوَّن بلغة موليير ومتشبع بالثقافة القانونية الفرنسية، وهو ما ازداد جلاء في أجيال ما بعد الاستقلال.
كما إنّ المُشرّع الجزائري لا يملك، باللغة العربية، ذلك “المخزون المفاهيمي” الخاص بالدولة الحديثة وبكيفية تـنظيم أجهزتها وبتحديد حقوق وواجبات مختلف الأطراف فيها (BABADJI، 1990: 208). وإن وُجد هذا المخزون، فهو محدود لا يمس أساسا إلا قانون الأسرة المستـنبط من أحكام الشريعة الإسلامية، ممّا يجعل الاستعانة بـ”المخزون” الفرنسي ومن ثَمَّ التحرير بلغـته أمرا واردا جدا، إن لم يكن حتميا.
هذا باختصار من حيث الأسباب. أما من حيث الانعكاسات، فهي تمس أساسا كلا من مجال التخصص في حد ذاته (القانون) واللغة فيما يمكن أن نطلق عليه مصطلحي “التثاقف القانوني” و “التثاقف اللغوي”.
فتأثر النظام القانوني الجزائري بنظيره الفرنسي يبدو جليا، كيف لا وقد أخذ عنه الكثير من المفاهيم القانونية وتبنّى عديد مؤسّساته القانونية، كما هو الشأن – مثلا – بالنسبة إلى مفاهيم “حقوق المؤلف” و”قانون عضوي” و”حالات التنافي مع العضوية في المجلس”، وكذا محاكاة نموذج المجلس الدستوري الفرنسي من حيث تكوينه ومهامه، و التأثر بكيفية ترتيب السلطات ضمن الدستور (تنفيذية، تشريعية، قضائية)، إلخ.
إنّ ترجمة هذه المفاهيم التي أخذها المشرع الجزائري عن نظيره الفرنسي، في إطار ما يُعرف بـ”التثاقف القانوني”، ولّدت تثاقفا من نوع آخر سميناه “التثاقف اللغوي” الذي يعكس تأثر لغة الضاد في القانون بلغة موليير، وهو ما يتجلى تحديدا في التداخلات اللغوية والمغالاة في استعمال أسلوبي النَّسخ والترجمة الحَرفية. فترجمة الوثائق التشريعية الجزائرية – خطابا ومصطلحات – تميـل في جزء كبير منها إلى اللغة المنقولة، أي الفرنسية، باتّباع الطريقة الشكلية التي تكون أحيانا على حساب كلّ من المعنى وخصوصيات اللغة العربية.
فمثلا، مصطلح “قانون عضوي” الذي جاء ترجمةً للمفهوم الفرنسي “loi organique“ يُثير شعورا بالغرابة ويصعب على من يصادفه أن يهتدي إلى مفهومه. ذلك أنّ واضعه أخذ بالمعنى الأول لـ”organe” وهو “العضو” وبنى المصطلح عليه دون معرفة حقيقية بأنّ تسمية أجهزة الدولة وهيئاتها بالأعضاء أمر غير مألوف في العربية.
وأغلب الظن أن واضع المصطلح يكون قد اختلط عليه الأمر بشأن المفهوم (الدلالة العلمية) واللفظ (مجرّد الدليل اللغوي) في عملية الترجمة الحرفية والسطحية التي لا تعمّق البحث في دلالة المصطلح العلمية، ممّا يُـؤدي إلى فهم خاطئ ينعكس على كيفية نـقل هذا المصطلح إلى اللغة العربية.
مصطلح “توقـيف للنظر” كمقابل للتعبـير الفرنسي “garde à vue” هو مثال آخر عن إعادة بناء النموذج الأجنبي باللّجوء مباشرة، في اللغة المنقول إليها، إلى النسخ الشكلي المحض دون مراعاة خصوصيات هذه اللغة أو ما قد ينجم من عجمة دلالية تُسيء إلى المفهوم أكثر ممّا تخدمه.
كما يُعدّ تعبير “قابلية الانتخاب” نسخا حرفيا للتعبير الفرنسي “éligibilité“. ذلك أنّ واضعه اعتمد النقل الحرفي للعناصر المكوِّنة للمصطلح: الفعل (élire) (انتخب) واللاّحقة المركبة (ibilité) (قابلية + مصدر). ثُمّ إنّ هذه التسمية العربية تتّسم كذلك بالغموض، بسبب الفعل “انتخب” الذي يحتمل الفاعلية والمفعولية ويوحي بقراءتين مختلفتين: فالشروط التي تُؤهّل النائب لأن يكون ناخبًا ليست هي الشروط نفسها التي تُؤهّل النائب لأن يكون مُرشَّحا.
لطالما تعالت أصوات عديدة في مناسبات كثيرة تنادي بتطوير لغة الضاد في مختلف المجالات، لكن قد نتساءل كيف للُغة القانون في الجزائر أن تتطور وواقعها يعجّ بالتناقضات: عدم الاعتراف الرسمي بوجود ازدواجية في لغة القانون الجزائري، مع أنها واقع لا يمكن إنكاره، الادعاء الرسمي بأن العربية كلغة وطنية ورسمية هي أصل تحرير القوانين في بلادنا، بينما تشير كل الدلائل إلى تحرير معظمها باللغة الفرنسية، التباهي بالتعايش السلمي بين العربية والفرنسية في حين أن المنافسة الضيزى سمة هذا التعايش الرئيسة. كل هذا دون أن ننسى مفارقة سياسة التعريب في بلادنا التي أعطت دفـعا أكبر “للغة الأجنبية الأولى” المؤسساتية في عزّ دفاعها النظري عن اللغة الرسمية والوطنية.
ثمّ ماذا عن اللغة الفرنسية التي تحظى بوضعية خاصة: فمن الناحية القانونية ليس لها أيّ وضع رسمي في البلاد وتعدّها السلطة الرسمية – شكليّا – لغة أجنبية مثلها مثل الانجليزية، ولكن تُتاح لها – عمليّا – عديد المزايا الاجتماعية وتحتـلّ مكانة مهمّة في السوق اللسانية الوطنية إلى أن أضحت تُنافس اللغة الرسمية – إن لم تتفوّق عليها – في أحد أهمّ ركائز الدولة، وهو القانون؟
قد يقول قائل (BABADJI، 1990) إن تحرير الوثائق التشريعية في الجزائر بالفرنسية وترجمتها إلى العربية فيه إثراء للغة الثانية، على أساس أن هذه الازدواجية هي علة تكييف العربية مع لغة الدولة الحديثة.
لاشك أنّ هذا الطابع الإيجابي حقيقةٌ لا يمكن التغاضي عنها. لكن ما تبذله هذه اللغة – العربية – في الجزائر من جهود لكيْ تكون ملمّة بكلّ ما يخصّ الدولة الحديثة يقابلُه تقصيرٌ من قِبل القائمين على هذه المهمة. نَعَمْ، تقصير تعكسه تلك الترجمات إلى العربية التي لا ترقى إلى هذا الاسم، ذلك أنّها كثيرا ما تكون غير مفهومة أو مضلِّـلة أو مبالِغة في تأثرها بالأسلوب الفرنسي لغةً وتركيـبا أو مَعيبةً بمثالب نحوية ومعجمية ودلالية، وكأنّها جاءت فقط تلبيةً لرغبة القانون في وجود نسختين. كل ذلك مقابل جودة في تحرير النصّ الفرنسي الذي يكاد يكون خاليًا من الأخطاء.
هذا هو إذًا واقع لغة التشريع في الجزائر – على الأقل كما نراه نحن –. واقع قد يجعل الحديث عن محاولات تطوير هذه اللغة دون طائل، لاسيما في ظل استمرار تحريرها بالفرنسية والتــفضيلِ المؤسساتي لما تُسمّى ظاهريا “اللغة الأجنبية” على حساب “اللغة الوطنية والرسمية”.
وقد يكون من السذاجة الدعوة إلى إلغاء الازدواجية في لغة التشريع الجزائري أو إلى تكريس فعليّ للّغة العربية في هذا المجال. ذلك أنّنا ندرك جيدا أنّ الأمر الآن أكبر بكثير من أن يُختزل في مجرّد اتخاذ قرار رسمي يقضي بإصدار القوانين التشريعية باللغة العربية وحدها. ومع ذلك كلّه، فمن الضروري الاستمرار في المناداة بالأولوية للُغة الضاد، مع الاحتـفاظ للّغات الأجنبية بمكانـتها، ليس في القانون فحسب، بل في شتى المجالات. وهو ما يتأتّى – في اعتقادنا – بوجود تكامل بين السياسة اللغوية و واقعها ومستعمليها، وبالاعتماد على إطارات تتمتع بالكفاءة والجدارة وتكون متخصّصةً في شتى الميادين ومُحبّةً للغتها الرسمية فتحرص على أن تكون في أبهى حلّة لها.
الخاتمة:
وخلاصة ما تقدم، نقول إنّ اعتماد اللغة العربية في النصوص الأساسية والتغنّي بها وبضرورة استعمالها مع تمكين غيرها في التعامل الرسمي والإداري والاقتصادي والتسييري هو – في نظرنا وفي نظر الكثيرين – من أهمّ أسباب فشل التنمية في الجزائر. والتاريخ يشهد (في اليابان وكوريا مثلا) أنّ التنمية تكون أساسا بلُغة أهل البلد.