الترجمة وثنائية اللغة والثقافة

محمد مجدي الجزيرى
جامعة طنطا
(مصر)

من المؤكد أننا لا نواجه الواقع مباشرة، بل نواجهه من خلال الثقافة بتنويعاتها المختلفة، نواجهه من خلال شبكة من الصور الرمزية كاللغة والفن والعلم والتاريخ والأسطورة والشرائع والنظم السياسية والقانونية، هذا هو الواقع الذى نعيشه ونحياه وننتمى إليه. عالم الثقافة الذى يقابل عالم الطبيعة الغفل الخام، وعن طريقه نعيد تشكيلها وصياغتها ونضفى عليه بعداً إنسانياً وثقافياً، وهكذا تكتسب اللغة دلالتها بمعناها العام، فالفن لغة والعلم لغة والأسطورة لغة والتاريخ لغة …. جميعها أشكال مختلفة من اللغة نرى ونقرأ وندرك العالم من خلالها ونتواصل مع بعضنا البعض ومع العالم الذى نعيش فيه ومع العالم الذى نحلم به. فكل المحددات الثقافية فى مجملها تنويعات مختلفة من اللغة فى غاياتها وتوجهاتها وإن اختلفت أدواتها وآلياتها ومساراتها. ولعل ما يجمع بينها هو الطابع الرمزى كما أبان الفيلسوف الألمانى أرنست كاسيرر. فعندما تعجز اللغة عن التعبير نلجأ إلى الفن، ولعل اتجاه المتصوفة إلى التعبير عن أذواقهم وتجاربهم الروحية عن طريق الشعر بدلا من اللغة العادية مبعثه العجز عن البوح عما يختلج بصدورهم من مشاعر وحدوس صوفية عن طريق ألفاظ وعبارات اللغة العادية، هذا ما دفع الفيلسوف الإيطالى بندتوكروتشه إلى القول بأن الشعر هو اللغة الأولى أو اللغة الأم للجنس البشرى، فالبشرية بدأت بالتعبير عن انفعالاتها وعواطفها قبل ان تتخذ طريقها إلى التعبير عن إدراكاتها العقلية، فالفن أسبق من اللغة والأسطورة أسبق من العلم. وتاريخ الإنسانية الثقافى بدأ من اللغة والفن والأسطورة وكل المظاهر التى أدت إلى تطور الحياة الإنسانية. وعلى هذا النحو اكتسبت السيموطيقا كعلم مستقل اهميتها، باعتبارها تدرس مختلف أصناف الاشارات من زاوية الدور الذى تعلبه فى النشاط الإنسانى، وحيث أن النشاط الإنسانى يتسم بالتعدد والتنوع، فإنه يقابله بالتالى من المنظومات الإشارية ما يتفق مع تعدده وتنوعه. وبالتالى يصعب الفصل بين اللغة والثقافة، فإذا كانت ثقافات العالم متعددة، فإن التنوع اللغوى بدوره يصعب حصره. فكل ثقافة يقابلها لغة، بل إن كل مساحة ثقافية من أمة واحدة تقابلها لهجة تعبر عنها، وبذلك تتعدد اللغات وتتعدد اللهجات، وهو ما دفع بفيلسوف التاريخ والحضارة جوتفريد هيردر إلى القول بأن من يريد دراسة تاريخ وثقافة شعب من الشعوب عليه أن يبدأ بدراسة لغته خير دليل على ذلك، فاللغة مرآة التاريخ والثقافة والهوية، ومتى بدت اللغة طريقنا إلى الثقافة، فإن الترجمة بدورها تكتسب دلالتها ومصداقيتها، خصوصاً إذا كان مجال الترجمة لا يتعلق بترجمة نصوص علميه أو تقنية وإنما يتعلق بمجال الثقافة والعلوم الإنسانية بصفة عامة. ففى المجال الأخير لا يكتفى المترجم بالإحاطة باللغة المصدر واللغة الهدف والإلمام بالكلمات (المفردات) وبناء الجملة (ترتيب عناصرها)، بل يتعدى ويتجاوز ذلك إلى التعمق والاطلاع على ثقافة البلد وشعبه (الاثنولوجيا وما وراء اللسانيات). ذلك أننا متى اتفقنا على القول بأن اللغة والثقافة وجهين لعملة واحدة فمعنى هذا أنه لا يمكننا الاكتفاء بجانب واحد من العملة وهو اللغة، متى أردنا للترجمة أن تحقق مراميها الحقيقية، بل ينبغى أن يتجه المترجم إلى الجانب الآخر وهو الثقافة، لا يكتفى بدراستها دراسة أكاديمية نظرية، بل عليه أن يعايشها ويستشعرها بعداً من أبعاد وجوده إلى درجة يبدو من خلالها وكأنه ينتمى إلى البلد الذى يتولى مهمة ترجمة لغته إلى اللغة التى يتكلم ويكتب بها. فالاختلاف بين اللغات – كما لاحظ فرنسيس بيكون – يعكس اختلاف الثقافات بين الشعوب، وهكذا تتكشف أمامنا اشكالية العلاقة الجدلية بين اللغة والثقافة فى مجال الترجمة. وفى هذا الصدد يمكن الإشارة إلى نزعتين فى تناول هذه العلاقة. الأولى يمكن تسميتها بالنزعة الاسمية، والثانية تسمى بالنزعة الإنسانية أو الثقافية، ويمكن تلخيص الخصائص العامة لكل نزعة على النحو التالى: يذهب أصحاب النزعة الاسمية إلى القول بأن اللغة مجرد صورة للعالم، فهناك كلمات ، وهناك أشياء وموضوعات، وكل شئ له اسم يقابله، وبالتالى لا مجال للبعد الإنسانى والتفاعل الاجتماعى والثقافى فى تحديد المعنى. بالتقابل مع هذا الرأى، يرى أصحاب النظرة الإنسانية أو الثقافية أن الكلمات ليست هى التى تحدد معانى الأشياء، وإنما البشر أنفسهم بواسطة الكلمات هم الذين يحددون معانى الأشياء. فالجملة لا تمثل العالم، وإنما البشر فى ضوء ثقافاتهم المتنوعة، بواسطة الكلمات والجمل، يحددون معنى العالم، وعن طريق اللغة لا نمثل ونصور العالم فقط بل نعيشه أيضاً، فاللغة لا تصنعنا بل نحن الذين نصنعها ونضفى عليها وجودنا الإنسانى والثقافى الأصيل، وهكذا تكتسب اللغة دلالتها من خلال الثقافة التى التحمت واشتبكت بها منذ البداية. وهل يمكن أن تتطابق الثقافة مع اللغة التى يتولى المترجم الترجمة إليها تتطابقاً كاملاً.