مترجم الشعر:
وقعنا في معرض قراءاتنا على تعريف رائع للشاعر جاء به بول فاليري في مقدمة ترجمته لديوان فيرجيل Les Bucoliques: نورد نص هذا التعريف بكامله لما له من وثيق الصلة بالمترجم:
« Le poète est lui-même un traducteur d’une espèce singulière، qui traduit le discours ordinaire، modifié par une émotion، en langage des dieux. Le travail de traduire، mené avec le souci d’une certaine approximation de la forme، nous fait en quelque manière chercher à mettre nos pas sur les vestiges de l’auteur ; et non point façonner un texte à partir d’un autre ; mais de celui-ci، remonter à l’époque virtuelle de sa formation، à la phase où l’état de l’esprit est celui d’un orchestre dont les instruments s’éveillent، s’appellent les uns les autres، et se demandent leur accord avant de former leur concert. C’est de ce vivant état imaginaire qu’il faudrait redescendre، vers sa résolution en œuvre de langage autre que l’originel. »
ترجمتنا:
“يعتبر الشاعر نفسه مترجماً من نوع خاص. مترجم يترجم خطاباً عادياً حوّرته المشاعر إلى لغة الآلهة. وعمل الترجمة الذي يتم عن طريق الانشغال بالتقرّب إلى حدّ ما إلى الشكل، يجعلنا نشعر وكأننا نبحث عن مسايرة خطى الآثار التي تركها الكاتب، ولسنا بصدد صنع نص انطلاقاً من نص آخر؛ بل نستهل منه لنرجع إلى حقبة تكوينه الافتراضية، إلى المرحلة التي تكون فيها الحالة الذهنية هي حالة جوق موسيقي تستيقظ آلاته، وتنادي بعضها البعض، وتتساءل عن توافق أوزانها قبل تشكيل أنغامها. علينا أن نهبط من هذه الحالة التخيلية الحيّة صوب حلّها على شكل عمل بلغة أخرى غير اللغة الأصلية.”
إن هذا التعريف للشاعر تعريف يتماهى مع المترجم ليصبح الاثنان مترجمان كل من نوع. فالأول يحوّل خطاب المشاعر إلى لغة الآلهة، والثاني يساير خطاه ليرجع إلى سفر تكوينه الأول. وكأنّ المترجم مسافر في أعقاب الزمن يتقفّى حالة الشاعر الذهنية لحظة إنتاج القصيد ليعيد صبّها بلغة أخرى غير اللغة الأصلية.
والدور الذي يلقيه فاليري على عاتق المترجم يجعل منه مترجماً من نوع خاص أيضاً: قارئ ومفسّر وناقد. والكل يعلم أنّ مشكلات الترجمة، مهما كان نمط النص المعدّ للترجمة، هي في أغلبها مشكلات مرتبطة بالمترجم: كفاءته اللسانية أولاً في اللغة التي يترجم منها وإليها، وذاتيته بالمعنى العلمي للمصطلح، أي الإطار والسياق الذي يعيش فيه، وتجربته الخاصة التي منها ينهل ذاتيته. بالإضافة إلى كل الافتراضات المسبقة التي تتحكم في سلوكه وتعاملاته مع المحيط ومع اللغة التي يعبر بها عن هذا المحيط.
ومن نافلة القول أن هناك علاقة يبنيها كل فرد- والمترجم خاصّة- مع لغته الأم، ومع لسانه الخاص نتيجة تراكمات ثقافية واجتماعية ونفسية شبّ عليها. أقول لسانه الخاص لأنه ضمن لغة أم واحدة قد تنسج، من بين أشياء أخرى، حساسيات متناهية حسب البيئة والوسط الاجتماعي والثقافة والذوق والرهافة الحسية. وهو ما يسميه إيكو (2000) “بالإرث الاجتماعي” الذي “لا يحيل، في تصوره، على لغة بعينها، باعتبارها نسقاً من القواعد فقط، بل يتّسع هذا المفهوم ليشمل الموسوعة العامة التي أنتجها الاستعمال الخاص لهذه اللغة، أي المواصفات الثقافية التي أنتجتها اللغة، وكذا تاريخ التأويلات السابقة لمجموعة كبيرة من النصوص، بما في ذلك النص الذي بين يدي القارئ”/المترجم.
والعلاقة التي يبنيها المترجم مع لغته هي علاقة في منتهى الخصوصية، لأنها علاقة واعية وناقدة ومقارنة في آن. واعية لكونها تخرج من إطار التحقيق العفوي الذي يمليه وحي الخاطر، وتتحكم فيها ردود فعل ظرفية تخفي افتراضات مسبقة غير معلنة، إذ غالباً ما يجهل الأفراد فعلاً الافتراضات المسبقة التي تكيف استجاباتهم اللسانية للوضعيات غير اللسانية المختلفة التي يعيشونها؛ وناقدة لكونه دائم الغوص في غياهب هذه اللغة وإشراقاتها، يرصد أدنى هفواتها وزلاتها، ويسجل بفخر مكامن تفوقها والإمكانيات الإبداعية التي تتيحها؛ ومقارنة لأنه بامتلاكه لناصية لغة الآخر، لا يفتأ يقوم بمقارنات بين لغة الأصل ولغة الوصل تؤدي به، في بعض الأحيان، إلى إضفاء نتفٍ من التحويرات الأسلوبية على لغته الأصلية التي غالباً ما يترجم إليها. ونحن إذ نعتبر المترجم قارئاً ومفسّراً وناقلاً، نتّفق مع بول ريكور(2010، ص46) في تعريفه للقارئ على أنّه الشخصية الحقيقية التي تُقاطع بين العالم (الممكن) للنص مع العالم (الحقيقي) للقارئ. أي المجابهة بين إستراتيجيتين: إستراتيجية المؤلف خلف قناع الراوي وإستراتيجية القارئ. الأولى هي إستراتيجية إقناع تمارس من الراوي باتجاه القارئ. والثانية هي إستراتيجية لعب أو حتى معركة للريبة والرفض تسمح للقارئ بممارسة (أو الدخول في) مسافة الاستحواذ أو تملّك النص. هذه المسافة تصفها ماتيلد فيشر (2009، ص 9) على أنها حوار بين الكاتب والمترجم يفترض الاعتراف “بالآخر” أو “الغير” الذي يمكن أن يكون النص أو اللغة أو الكاتب أو حتى غيرية داخلية. وما النص- الترجمة سوى هذه المواجهات مع الغيرية. وهذا الحوار هو “حوار تفسيري” على حدّ تعبير غدامر (1976) ينشأ بين النص والمترجم. ومترجم الشعر هو حلقة الوصل بين الممكن والحقيقي وهو الذي يبني النص- الترجمة في نقاط تماسهما. والمترجم بصفته قارئاً بالدرجة الأولى، وليس أيّ قارئ عادي، بمعنى أنّه قارئ/مفسّر/ناقل، عليه إدراك كل المعاني الظاهرة والباطنة التي يكتنفها النص، والقيام بكل عمليات التحليل والتأويل والتحويل. وهذا يعني اجتثاث كل الألغام المعنوية وتفجيرها. ولكن لا يخلو نصّ من وجود بعض الأوجه المستترة التي لا تفصح عن مكنونها صراحة، وهي ما نسمّيه “بالقنابل الموقوتة”، ويتم الكشف عن نقابها في لحظات انفعالية معينة، تتوافر فيها شروط الالتحام الوثيق بالنص، من خلال معايشة حميمة للأجواء السرية والطقسية المبطنة بالرمز أحياناً التي تبوح بمقاصد المؤلف وتنزع الحجب عن عالمه الخاص.
النص الشعري
من المفيد أن نحدد الفرق بين الشعر والنظم، خاصة وأنّ مدوّنتنا تشمل الاثنين معاً. فقد يكون النص شعرياً دون أن يكون منظوماُ في أبيات، كما يمكن لنص منظوم على شكل أبيات وأن لا يمتّ إلى الشاعرية بصلة.
لقد كان الجاحظ قاطعاً في حكمه على استحالة ترجمة الشعر، والشعر العربي على وجه الخصوص الذي رأى في ترجمته إلى ألسنة أخرى تعذّراً مطلقاً. وهو رأي يتفق معه أغلب المترجمين والأدباء الذين خاضوا مغامرة الترجمة الشعرية، ومنهم الشاعر الفرنسي بودلير Beaudelaire الذي يقرّ هو الآخر باستحالة ترجمة الشعر لأن صبّ الشعر في قالب نثري ليس حلاً بالنسبة للنقل الخلاق للروائع، حسب ما ذكره بخصوص إمكانية ترجمة Contes لإدغار آلان بو Edgar Poe حيث يقول:
«Dans le moulage de la prose appliqué à la poésie، il y a nécessairement une affreuse imperfection; mais le mal serait encore plus grand dans une singerie rimée. Le lecteur comprendra qu’il m’est impossible de lui donner une idée exacte de la sonorité profonde et lugubre، de la puissante monotonie de ces vers، dont les rimes larges et triplées sonnent comme un glas de mélancolie.» (In، Etkind، 1982:17)
ترجمتنا:
“يوجد بالضرورة عيب مشين في تطبيق نهج صّب الشعر في قالب النثر؛ لكن الطامة الكبرى تكمن في تحوّله إلى تقليد أعمى مقفّى. وسيفهم القارئ كم تعسّر عليّ أن أعطيه فكرة مضبوطة عن الرنين العميق والمقنط، والرتابة القوية لهذه الأبيات التي تدقّ قوافيها الثلاثية الطويلة كناقوس الكآبة”.
وبالفعل، تعتبر ترجمة الشعر من أصعب عمليات الترجمة، حتى أن بعض منظري الترجمة، ومنهم هاوز، ينصحون بإقصاء النصوص الشعرية من دائرة الترجمة باعتبارها عملاً إبداعياً قائماً بذاته. فالنص الشعري هو التحام بين المعنى والرنين والصور والتشكيل شكلاً ومضموناً. وعند ترجمته إلى لغة أخرى نثراً قد لا يمكننا الاحتفاظ سوى بمعنى الكلمات والصور الشعرية، فلا يبقى من القصيدة إلاّ هيكل عظمي دلالي نزع عنه الرنين والتشكيل وهما جوهر الشعر.
ونحن هنا نستعمل كلمة “تشكيل” بدل كلمة “بنية” للإحالة إلى مرجعية فنيّة، ولاقتراب الشعر من الفنون التشكيلية. أوليست لوحة فان غوخ Van Gogh التي استنسخها عن لوحة Le Moissonneur للفنان مييّه Millet، ترجمة تشكيلية؟ مع الاختلاف المتمثل في أن لغة الرسم تندرج ضمن لغة عالمية مادّتها الألوان. بحيث “ترجم” فان غوخ لوحة مييّه من لغة جمالية إلى أخرى، محولاً التوازن والاستقرار السائد في اللوحة الأصلية إلى قلق وحركية في نسخته. فجاءت لوحته مكافئة للأصل وإبداعاً جديداً في آن. وهنا يكمن أساس ترجمة الشعر. أن تكون القصيدة مكافئة للأصل من حيث الدلالة والصور وكل ما يمكن نقله، وفي الوقت نفسه إبداعاً جديداً يتقبلّه قارئ لغة الوصل بشكل لا يتنافر مع معاييره الجمالية واللسانية.
وهو بالضبط ما يشير إليه روبير فيفييه Robert Vivier في معرض حديثه عن ترجمة الشعر قائلاً:
«… la traduction (poétique) n’est pas une technique de reproduction mais un art، c’est à dire une activité qui crée une chose à partir d’une autre (…). Le poète lui même n’avait-il pas été déjà de la même manière le peintre de sa propre aventure mentale? Il avait uni la vérité d’émotion à une beauté verbale. Le traducteur tentera à son tour une peinture de cette peinture en la transposant dans un coloris nouveau où il s’efforcera de conserver les relations et l’effet général de l’œuvre primitive.» (In Un Art en Crise، Etkind، p. xv، 1982).
ترجمتنا:
“…إن الترجمة (الشعرية) ليست تقنية استنساخ بل فن. أي أنّها نشاط يخلق شيئاً انطلاقاً من شيء آخر (…) أو لم يكن الشاعر هو ذاته الرسام الذي صوّر مغامرته الذهنية؟ حيث وحّد بين صدق المشاعر وعذوبة الكلمة. كذلك يحاول المترجم بدوره رسم هذه اللوحة عن طريق نقلها بتلوين جديد يسعى فيه إلى الحفاظ على التأثير العام للعمل الأصلي وعلاقاته”.
وسبيل المترجم الأدبي إلى حلّ هذه المعضلة هو الاحتكام إلى حدسه الخاص ومحاولة الإمساك بأول الخيط في بنية القصيدة العامة، وإرهاف السمع إلى رنينها الداخلي.
وقد ميّزت مارغريت يورسنار Marguerite Yourcenar في مقدمتها لديوان: La Couronne et la Lyre، وهي قصائد إغريقية ترجمتها نظماً إلى الفرنسية، ميّزت بين نوعين من ترجمة الشعر:
أ- الترجمة الأكاديمية أو الجامعية: التي يقوم بها الطلبة أو الأساتذة أو الباحثون لأغراض تعليمية وأكاديمية. ويبذلون قصارى جهدهم للإتيان بالمعنى الدقيق للقصائد الأجنبية، تماماً كما يفعل علماء اللغة في تحقيق المخطوطات القديمة، أو علماء التاريخ إزاء نصوص هيروغليفية أو مسمارية.
ب- الترجمة الجمالية: وهي ترجمة ينحصر هدفها في توفير متعة جمالية. وتتوجّه إلى قارئ يبحث عن التعرف على نوع آخر من فنون الشعر، ينتمي لشعب آخر أو لحقبة أخرى.
ولا بدّ هنا أن تختلف الترجمة حسب الهدف والوظيفة المنوطة بنص الوصل، إذ يمكن أن يكون الهدف توصيلياً (تنوير القارئ) أو جمالياً (إمتاع القارئ) أو تعليمياً (تلقين القارئ).
والقصيدة عبارة عن بناء لكل عنصر فيه أهمية حيوية: حيث يندمج الإيقاع، والقافية، والأبيات، والبنية التراكيبية، والتنظيم الصوتي والموسيقى لتشكيل نظام متكامل. وقد استخرج إيفيم إيتكيند E. Etkind من خلال دراسته لمقدمات المترجمين التي يعرضون فيها مناهجهم في الترجمة الشعرية، استخرج ستة أنواع من الترجمات وهي:
- 1. الترجمة التبليغية
وتهدف إلى إعطاء القارئ فكرة عامة عن العمل الأصلي، تكون في الغالب على شكل نثري ودون المستوى الجمالي للأصل.
- الترجمة التأويلية
تتآلف فيها الترجمة مع الشرح والتحليل، لتصبح عاملاً مساعداً في الدراسات التاريخية والجمالية. بحيث تترك البقية لخيال القارئ ليعيد بناء القصيدة بناء على تأويله للترجمة بتحليلها وشروحها.
- الترجمة التلميحية
وهي ترجمة تسعى إلى إذكاء خيال القارئ لدرجة تمكّنه من استكمال المعنى المنقوص. كأن يقوم المترجم باحترام القافية في الأبيات الثلاثة أو الأربعة الأولى من القصيدة، ليأخذ بيد القارئ نحو اكتشاف الرنين الحقيقي للأصل.
- الترجمة التقريبية
وتتجلى عندما يكون المترجم مقتنعاً حتى قبل أن يهمّ بالعمل بأن ترجمته لن ترقى إلى المستوى المطلوب. وعادة ما يبدأها في المقدّمة بتقديم اعتذاره وتبرير إخفاقه.
- الترجمة الإبداعية
ويتم فيها إعادة خلق مجمل القصيدة مع المحافظة على بنيتها الأصلية. لكن ذلك لا يتم دون تضحيات، أو إضافات. وذروة نبوغ المترجم تكمن في قدرته على عدم تجاوز حدود الضرورة القصوى في تضحياته، وأن لا تتخطى إضافاته معالم العالم الجمالي للشاعر.
- الترجمة المقلّدة
وهي ترجمة تسعى إلى إنتاج قصيدة جديدة بلغة الوصل انطلاقاً من قصيدة بلغة الأصل. وبالتالي فليس من الضروري أن تكون للقصيدة الجديدة بنية مكافئة للأصل، ولا أن تحتوي على الصور الشعرية نفسها.
إنّ الشعر هو النوع الأدبي الوحيد ربما الذي يكون للجانب الصوتي فيه الأهمية نفسها التي يكتسيها الجانب الدلالي كما يشير إلى ذلك أمبرتو إيكو:
«… le verbe poétique est celui qui établit dans un rapport absolument nouveau son et concept، sons et paroles، et qui unit les phrases de manière inusuelle، communiquant ainsi، en même temps qu’une signification déterminée، une émotion insolite، au point que l’émotion naît alors même que la signification n’est pas immédiatement saisie.» (Umberto Eco، 1965: 80).
ترجمتنا:
“…الفعل الشعري هو ذلك الذي يضع في علاقة جديدة تماماً، الصوت والمفهوم، والأصوات والكلام، ويربط الجمل بطريقة غير مألوفة، موصّلاً في نفس الوقت المعنى المحدد والانفعال المتفرّد. لدرجة أن الانفعال يتولّد قبل أن يتم استيعاب المعنى.”
بل قد يكون هذا الجانب الصوتي هو الأهم، كما يدل على ذلك المثال الذي أورده حاتم وميسون (1990: 14) من قصيدة Serenata sintética للشاعر البرتغالي كاسيانو ريكاردو:
Rua
Torta
Lua
Morta
Tua
Porta.
فالتأثير الصوتي في هذه القصيدة القصيرة يمثل كل شيء فيها، على الرغم من إيحائية الكلمات: “الطرق المتعرّجة”rua torta ، “القمر المتلاشي” lua morta، والتلميح إلى قصة غرامية “بابك” tua porta. وقد تم إحداثه عن طريق تضافر القافية والإيقاع والارتقاء بالقيمة الدلالية تبعاً لسمات اللغة البرتغالية. (Hatim & Mason 1990، p.14).
إنّ القصيدة يجب أن لا تعني فقط بل أن تكون. فهي ليست مجرّد تعبير عن فكرة خارجة عن الشعر مستقاة من الفلسفة أو الدين أو السياسة أو أيّ مجال لا شعري آخر، بل إنّها تعبير مباشر لتجربة كائنة في صورتها الحاضرة. ينبغي فهمها كلّها بعالمها وألفاظها. كما أنّها من إبداع شاعر يخضع تقييمه، كما يقول أدونيس، لمستويات ثلاثة: مستوى النظرة أو الرؤيا؛ ومستوى بنية التعبير؛ ومستوى اللغة الشعرية. والتقليد هو تحويل أحد هذه المستويات إلى تنميط يتمّ فيه تلبّسه وتكراره. أمّا التنميط فهو إعادة إنتاج العلاقات نفسها: علاقة نظرة الشاعر للعالم والأشياء، وعلاقة لغته بها، وبنية تعبيره الخاصّة التي تعطي لهذه العلاقات تشكيلاً خاصاً. يمكن إذن اعتبار التنميط حسب مفهوم أدونيس معياراً نقيس عليه درجة التوفيق في ترجمة الشعر.
المتلقي
قسم أصحاب نظرية التلقي، ومنهم فولفغانغ آيزر، وهانز روبرت يوس (1982)، ونورمان هولاند (1975)، القراء إلى صنفين كبيرين: القارئ المفترض والقارئ الحقيقي. باعتبار أن القارئ المفترض ليس له كيان فعلي بل ينحصر وجوده في ذهن الناقد وغالباً ما يدل عليه. أي أنه بمعنى آخر مجرد أداة افتراضية مثالية تساعد الناقد على شرح النص وتفسير آلياته وكيفية بنائه، بشكل يجعلها مرآة تنعكس عليها كل مخزونات النص باستجاباتها المتوقعة. أما الصنف الثاني، أي القارئ الحقيقي، فهو الشخص الذي يشتري النص ويقرؤه. ويخرج النص والنقد معه من فضاء الافتراضية المثالية إلى فضاء الثقافة بمفهومها الواسع بداية من العلوم الإنسانية إلى العلوم التطبيقية والدقيقة. وعندما يصبح الإنسان الحقيقي مجالاً للنقد تتسع دائرة هذا الأخير لتشمل المجال الثقافي بحيث يصبح من المتعذر تحديده وعزله عن غيره كتخصص محايد.
إن المترجم من هذا المنظور يتقمص شخصية القارئين معاً بحيث يصبح “قارئاً متواءماً” يتعيّن عليه شرح النص وتفسير آلياته وكيفية بنائه، ومن ثمّ إخراجه من فضاء الافتراضية المثالية من أجل تمثّله في أبعاده الثقافية والعلمية المختلفة التي تحدد وجوده الحقيقي والمتفرد، مع كل ما يمكن أن يشتمله من تناص لكي يعيد بناءه وصياغته، ويدخله في القوالب الثقافية للغة الوصل التي تعطيه استمرارية وجوده في منظومة لسانية مختلفة.
فكيف يمكن إذن، إزاء هذه الازدواجية الشخصية رصد ودراسة استجابته وتلقيه للنص وكيفية تفاعله معه؟ هل تكون استجابته نتيجة توظيف رصيده المعرفي المكتسب الذي يجد صداه في توقعات المؤلف، بحيث يبحث في كل جملة، وفي كل فقرة، عن أنساق مألوفة ينسج على منوالها معاني التآلفات غير المعهودة ليعيد صياغتها بلغة الوصل بنبرتها المبتكرة؟ وهل يقوم بإسقاط اهتماماته ورغباته على النص، كما يشير نورمان هولاند (مصدر سابق، 1975)، وهو ما يحدث عادة بشكل واع أو غير واع، أم أن النص نفسه يولد فيه هذه الاهتمامات والرغبات؟ وهل للسياق الاجتماعي والسياسي أو العقائدي دور في تحديد الاستجابة للنص، أم أن العوامل النفسية أكثر أهمية في تحديد طبيعة هذه الاستجابة وعمقها؟ وكيف نفسر ظاهرة اختلاف المترجمين، وما أكثرها، حول ترجمة معنى عبارة ما في نص أصلي معين؟
ومهما يكن من أمر، فإن الإجابة عن هذه الأسئلة لا بد أن تنطلق بداية من اتجاهين: الأول هو اعتبار النص في كل الحالات مخزن الفعل ورد الفعل، تُستمدّ منه كل الدلائل والإشارات المضمرة والظاهرة، ويشكّل النابض الذي يحرك ردود الفعل إزاءه. والثاني هو اعتبار المترجم/القارئ صاحب الكلمة الفصل في كل ما يتعلق بالنص بصفته منتجاً لكل ما كان للنص سابقاً، وذاتاً واعية تتفاعل مع النص وتمنحه وجوده من خلال تحديد معناه وتأويله ثم نقله إلى لغة أخرى.
و”تأويل نص معناه هو شرح كيف أن هذه الكلمات تحيل – في ذاتها – على أشياء مختلفة (وليس على أشياء أخرى)” كما يقول أمبرتو إيكو الذي يضيف “بأن هناك نظريات حديثة تقول بأن القراءة الوحيدة الجدية للنصوص هي قراءة خاطئة، والوجود الوحيد للنصوص يكمن في سلسلة الأجوبة التي تثيرها”. ولكن هل هذه الأجوبة هي تلك التي تجد مستقرها في ذهن القارئ عندما يومض لينير جوانب النص التي ينتظرها، في حين يسود التعتيم على الجوانب الأخرى التي ليس بحوزته قالباً نسقياً يمكّنه من احتوائها؟ وهل للمؤلف يد في ذلك؟ بمعنى أنّه يكتب بنوع من الانهماك السري في حميميته الخاصة، يدسّها كألغاز يستأثر بحلّ طلاسمها؟ أهو السبب الذي جعل ترجمة مؤلفات كافكا التي تلت صدور أعماله بعد الحرب العالمية الثانية تتسم بنوع من السوداوية التي اقترنت باسمه وضربت مثلاً، في حين أن الترجمات الحديثة تسبغ على نصوصه طابعاً من السخرية والهزل الفلسفي؟ فالنص كما يشير إلى ذلك تودوروف، “هو نزهة يقوم فيها المؤلف بوضع الكلمات ليأتي القرّاء بالمعنى… والكلمات التي يأتي بها المؤلف تشكل ترسانة ثقيلة من المعطيات المادية التي لا يمكن للقارئ أن يتجاهلها”، (أمبرتو إيكو، التأويل بين السيميائيات والتفكيكية، المركز الثقافي العربي، 2000، ص 22).
ولا يوافق إيكو من يعترض عليه بالقول بأن البديل الوحيد لنظرية خاصة بالتأويل الجذري الموجه نحو القارئ هو ذاك الذي يروم الإمساك بالمقاصد الأصلية للمؤلف، بل يشير إلى وجود إمكانية ثالثة تتوسط قصدية المؤلف التي يعتبرها قصدية صعبة التحديد وبدون أهمية في تأويل نص ما، ويتعلّق الأمر بقصدية النص، ويرى هذه القصدية في تقابل أو تفاعل مع “قصدية القارئ” و”قصدية المؤلف”.
ويخلص إلى الإعلان بخصوص السجال المعاصر حول دلالة نص ما، بأنّه لا يقيم أيّ اعتبار للتمييز بين النص الأدبي والنصوص اليومية، ولا للاختلاف بين النصوص التي تعتبر صوراً للعالم وبين العالم الطبيعي (وفق التصورات التقليدية المغرقة في القدم) باعتباره نصاً كبيراً يجب فكّ رموزه. فالنص كون مفتوح بإمكان المؤوِّل أن يكتشف داخله سلسلة من الروابط اللانهائية. ومن أجل إنقاذ النص، أي نقله من وضع الحاضن لدلالة ما والعودة به إلى طابعه اللامتناهي، على القارئ أن يتخيّل أن كل سطر يخفي دلالة. فعوض أن تقول الكلمات، فإنها تخفي ما لا تقول.
إن مجد القارئ يكمن في اكتشافه أنه بإمكان النصوص أن تقول كل شيء باستثناء ما يود الكاتب التدليل عليه. ففي اللحظة التي يتم فيها الكشف عن دلالة ما، ندرك أنها ليست الدلالة الجديدة، إن الدلالة الجديدة هي التي ستأتي بعد ذلك، وهكذا دواليك. إن الأغبياء أي الخاسرين، هم الذين ينهون السيرورة قائلين: “لقد فهمنا”. إن القارئ الحقيقي هو الذي يفهم أن سر النص يكمن في عدمه، (مصدر سابق، ص43).
ترجمة الشعر
انقسم النقاد بخصوص كيفية ترجمة الشعر والنظم إلى مؤيد ومعارض. فمنهم من يقول إنّ الترجمة النثرية مهما بلغت درجة شاعريّتها لا تناسب النصوص المكتوبة نظماً، لأن النظم أسلوب في الكتابة ينبغي احترامه طالما أن مؤلف النص الأصلي قد اختاره عن سابق إصرار. وفريق آخر يتمسك بفكرة أنّ الترجمة النثرية هي وحدها الكفيلة بإيراد كل المعاني والصور الشعرية التي تكتنفها القصيدة، وأنّ التزام المترجم بالقافية يبعده عن الدقة في أداء المعاني ويجرّده من عفوية الإلهام التي تتيحها الترجمة لحظة التفاعل الأول مع النص الأصلي. فهو حين يجبر نصه على الخضوع للأوزان والعروض تأتي ترجمته مفتعلة ومصطنعة. ربّما كان الفريقان على حق. وهو الأمر الذي سنحاول معاينته في تحليل الترجمات المختارة لهذا الغرض.
ولكن بما أن العملية الترجمية تقوم على علاقة جدلية تبادلية مستمرة ذات اتجاهين: من المترجم (بعالمه) إلى النص (بمخزونه) ومن النص (بما يفصح) إلى المترجم (بما يفسّر). وتعمل هذه الجدلية على محوري الزمان والمكان. فكل قراءة للنص المعد للترجمة ترمي إلى إيجاد المعاني التي تندفع إلى ذهن المترجم وتأسيسها، لتتحول إلى مكافئات تتناضد فوقها مكافئات أخرى، تحيل الأولى إلى الخلفية لتشكل تراكمات تبرز النص الوصل تدريجياً بشكله الآيل دوماً إلى التطوير بفعل عاملي الزمان والمكان. والمترجم حين يشرع في صياغة ترجمته يقوم بصفة تلقائية أحيانا، وواعية أحياناً أخرى، بعملية فرز للمقترحات المكافئة التي تتبادر إلى ذهنه، وانتقاء الصيغ الأسلوبية التي تبدو له الأكثر ملاءمة لحظة إنتاج الترجمة، من بين مجموعة الصيغ الأسلوبية التي تتيحها اللغة، أو بالأحرى، تلك التي يمتلك ناصيتها.
والترجمة الناجحة كما استنتجت باتريشيا شيغيني Patricia Chighini BabeL 25 (avril 2008)) من كتاب أمبرتو إيكو Dire presque la même chose تتطلب التحاماً انفعالياً بالقصيدة، وإرادة لاحترام المعنى العميق للنص بقدر الإمكان، وقدرة على التفاوض الذكي والمحكم لإيجاد حل يرقى لزخم الشاعر في تآلف قد يطال المطلق أو يكاد.
وقد كانت لنا في السنوات الماضية، مع طلبة السنة الرابعة في قسم الترجمة بجامعة الجزائر، فرصة تحليل الترجمة الإنجليزية لقصيدة محمود درويش: “مأساة النرجس وملهاة الفضّة”. وبما أنّه قد سبق لنا خوض تجربة ترجمة الشعر، ونعرف من خلالها كم هي مهمة عسيرة تكاد تطال حواف المستحيل، فترانا لذلك أميل إلى النظر لأغلب الترجمات الشعرية التي نصادفها بعين التسامح.
لكن الأمر كان يتعلّق بشاعر عربي كبير نحسّ بوقع كلماته في جوارحنا قبل أن تتناهى إلى مسامعنا. لذا لم يكن من مجال للمداهنة.
وقد حاولنا في تحليلنا تسليط الضوء على بعض الإيحاءات التي أغفلتها الترجمة وأهمّها الحنين الذي ترشح به القصيدة والذي يحيل إلى تراث وثقافة وزمان ومكان. والحنين الذي عنيناه هو تلك الشحنة الوهّاجة التي تلفّ الكلمات وتبطّن ثنايا معانيها وشيّاتها. الحنين الذي نستشفّه كأريج عطر أخّاذ بعيداً عن التواءات الحرف. الحنين الذي ينضح من “أزهار الليمون” و”حبّات اللّوز” و”شلل البامية المجفّفة”. الحنين الموروث المطبوع في صبغيّاتنا كذاكرة أزلية، شفافة مثل حبة تمر عانقتها أشعة الشمس، رشيقة مثل أنداف الياسمين المسترخية في وسط الدار، نفّاذة كرائحة “الخليع” يتلوّى على سطوحنا في رابعة النهار. إنّه الحنين كإيحاء حاضر أبداً، يلفّ قصيدة محمود درويش بهالة من قوس قزح، تُسائل الأسفار والتاريخ والأساطير، وتفتّح جروح المنفى ومرارة الإحباط. أيّ ترجمة يمكنها الإحاطة بكلّ ألوان الحنين هذه؟
وقد قمنا بمعالجة النص المترجم من منطلق بعض الإستراتيجيات السبع للترجمة الشعرية التي صنّفها أندريه لوفيفر (André Lefèvre، 1975) وهي:
- الترجمة الصوتية Phonetic Translation
- الترجمة الحرفية Literal Translation
- الترجمة العروضية Metrical Translation
- الترجمة النثرية Plain prose Translation
- الترجمة المقفّاة Rhymed Translation
- الترجمة الحرّة Blank verse Translation
- الترجمة التأويلية Interpretative Translation
ثمّ حاولنا أن نحدّد أياًّ من هذه الإستراتيجيات السبع تمكّن المترجم من تطبيقها، والفضاءات التي تبخّرت فيها إيحاءات الحنين. وقد تناول التحليل المقطع الأول من القصيدة:
Tragicomedy of Daffodils and silver |
مأساة النرجس وملهاة الفضة |
Come back they did
From the end of a long، long tunnel to their own mirrors
Come back they did
When they restore they did، the salt of brethern، singly and in groups
Come back they did
From myths of defending citadels
To simple ordinary talks
No longer will they be raising hands
And banners for miracles
Come back they did to remain honest
To arrange the winds
To marry sons and daughters
To revive the marble for dancing
To hang onions…beans، garlic under the ceiling for winter
To milk their goats
Clouds of pigeons’ feathers
Come back they did On tips of vanity
To realm of divine charm
To banana groves
In ancient mountainous lands
To a mountain by the sea
To two lakes beyond memory
To a prophet’s coast
To a lane full of lemon scent
The country is safe. |
عادوا
من آخر النفق الطويل إلى مراياهم
وعادوا
حين استعادوا ملح إخوتهم، فرادى أو جماعات، وعادوا
من أساطير الدفاع عن القلاع…
إلى البسيط من الكلام
لن يرفعوا من بعد، أيديهم ولا راياتهم للمعجزات إذا أرادوا
عادوا ليحتفلوا بماء وجودهم؛
ويرتّبوا هذا الهواء
ويزوّجوا أبناءهم لبناتهم؛
ويرقّصوا جسداً توارى في الرخام
ويعلّقوا بسقوفهم بصلاً…وبامية… وثوماً للشتاء
وليحلبوا أثداء ماعزهم…
وغيماً سال من ريش الحمام
عادوا على أطراف هاجسهم
إلى جغرافيا السحر الإلهي
وإلى بساط الموز
في أرض التضاريس القديمة
جبل على بحر
وخلف الذكريات بحيرتان
وساحل للأنبياء
وشارع لروائح الليمون
لم تُصب البلاد بأيّ سوء. |
- 1. تطبيق إستراتيجية الترجمة الصوتية
الملاحظة الأولى التي تظهر من الناحية الصوتية هي:
أ. تردد حرف العين والدال في مستهل القصيدة: عادوا، استعادوا، وعادوا، الدفاع، عن القلاع، بينما لا نجد أثراً لهذا الترديد الصوتي في الترجمة الإنجليزية.
ولو أن المترجم استبدل الفعل come back بالفعل to return لتمكّن من تحقيق هذا الترديد في:return، mirror، restore، brethern، groups
ب. تردد حرفي السين والصاد في:
يرقصوا، جسداً، بسقوفهم، بصلاً، سال، هاجسهم، السحر، بساط، التضاريس.
في حين نجد الترديد في الحرف R في:
Daughters، marry، arrange، remain، winter، garlic، marble، and revive.
وهنا لا ندري إن كان الترديد مقصوداً من المترجم أم أنه مجرّد مصادفة استدعتها المقابلات المعجمية المباشرة في اللغة الإنجليزية.
- 2. تطبيق إستراتيجية الترجمة الحرفية
لدى تطبيق إستراتيجية للترجمة الحرفية التي تعني المقابلة، كلمة بكلمة بين عناصر نص الأصل ونص الوصل، يتبدّى إغفال بعض الإيحاءات والمرجعيات الثقافية:
مثلاً في عبارة: ملح إخوتهم، التي ترجمت بـ: salt of brethern
فكلمة salt تفتقر إلى الشحنة الثقافية التي تحملها كلمة ملح في العربية، كما في التعبير العامي: “بيننا خبز وملح”.
ومالَح مِلاحاً ومُمَالَحة، مَالَحَهُ بمعنى: أكل معه. ويُقال: “هو يحفظ حرمة الممالحة”.
والملح أيضاً هو الحرمة والمعاهدة، يقال: بينهما ملحٌ. ويُقال أيضاً:
“ملحه على ركبتيه”: أي لا وفاء له. والمولدون يقولون: “ملحه على ذيله”: أي هو ناكر للجميل.
ولا عجب أن يكون للجذر عينه معنى الظرف والحسن، نقول: ما أملحه، أي ما أحسنه.
ولا نكاد نجد لكلمة salt في الإنجليزية هذه المعاني المجازية المشحونة، اللهم إلاّ في التعبير: You are the salt of the earth
بمعنى: أنت من كرام الناس، أي “ناس ملاح” (حتى لا نخرج من الملاحة).
- تطبيق إستراتيجية الترجمة التأويلية
يتجلى تطبيق هذه الإستراتيجية في ترجمة الجملة التالية:
“عادوا ليحتفلوا بماء وجودهم”
التي ترجمت إلى: To remain honest
ومن الواضح أن الجملة الأصلية منسوجة على منوال التعبير المكرّس:
“يحتفظوا بماء وجوههم”، بمعنى: لا يُحرجون، لا يفقدون هيبتهم وعزّة أنفسهم أو وقار منزلتهم؛ التي يقابلها في الإنجليزية:
Not to lose one’s face
والجميل هو كيف حافظ الشاعر على نفس الرنة الصوتية للعبارة المكرّسة بإبدال حرفين فقط: الظاء باللام والهاء بالدال.
لكن الإشكال يكمن في الترجمة، لأن ترجمة حرفية ستعطينا:
To celebrate the water of their existence
لكون العبارة المنسوجة قد خرجت عن منوالها الأصلي وفقدت صلتها المعنوية به، ويتوجّب فهمها بمعناها الحقيقي ثم تأويل هذا المعنى حسب الصورة الشعرية والسياق.
والمعنى المجازي الذي يتبادر إلى أذهاننا بإلحاح لعبارة “ماء الوجود” هو وسيلة التكاثر والحفاظ على الجنس البشري، ويعطينا ذلك بالإنجليزية:
To make love
أو أن تؤول العبارة حسب الصورة الشعرية لتصبح:
To celebrate life
ويحضرنا في هذا السياق قول كيربرات-أوريكيوني Kerbrat- Orecchioni حين تؤكد على إلحاح المعنى الحرفي:
«Le sens littéral cède en résistant، mais il résiste en cédant، et conserve jusqu’au bout une certaine validité.» (Kerbrat- Orecchioni، La connotation، 1983)
ترجمتنا:
“المعنى الحرفي ينزاح بمقاومة ولكنه يقاوم عند الانزياح ويحتفظ إلى النهاية بنوع من الثبوت.”
وهذه المقاومة تظهر بشكل قوي في الترجمة، فالمعاني تقع دائماً بين شدّ وجذب.
مثال آخر على ضرورة تطبيق الترجمة التأويلية والتي نعتقد بإخفاق المترجم في تحقيقها يتمثل في الجملة التالية:
“ويزوّجوا أبناءهم لبناتهم”، التي ترجمت إلى:
To marry sons and daughters
وهي ترجمة تبدو لأول وهلة مقنعة على الرغم من استبدال حرف الجر “ل” بالعربية بحرف العطف and بالإنجليزية. لكن النبرة التصاعدية التي تبدأ بالنفي القاطع: “لن يرفعوا من بعد أيديهم ولا راياتهم للمعجزات…” والمتبوعة بتسلسل لأفعال في المضارع تجعلنا نشكّ في أن الترجمة قد تضمنت المعنى المقصود. خاصّة إذا ما استحضرنا المثل الشعبي السائد في المشرق العربي الذي يقول:
“زوّج ابنك لبنتك والفضيحة ثلاثة أيام”.
بمعنى لا تتردد وغامر في التصدّي للأعراف للسائدة. وبهذا تصبح الترجمة الأكثر ملاءمة لهذا التصعيد الحماسي هي:
To break the taboo
لأن الجملة التي تليها: “ويرقّصوا جسداً توارى في الرخام”
قد تفسّر هذا المعنى على الرغم من أنها قد ترجمت بشكل محايد تماماً:
To revive the body buried in marble for dancing
فالخزي والعار اللذان يشعر بهما شخص تمرّد على الأعراف يجعلانه يتمنى أن تنشقّ الأرض وتبتلعه. وهو تعبير نستعمله حتى في تعابيرنا اليومية. فما بالك لو كانت الأرض رخاماً؟
ونرى في جملة: “ويعلّقوا بسقوفهم بصلاً وبامية وثوماً للشتاء”
أن كلمة “بامية” قد ترجمت بـ: beans وهي مقابل للفاصولياء واللوبياء كما نسميها؛ وبالإضافة إلى عدم احتمال ورود صورة الفاصولياء معلّقة من الناحية المنطقية:
To hang beans under the ceiling
فإن كل الإشارات الثقافية والإيحائية لكلمة بامية فقدت تماماً.
والبامية أو le gombo بالفرنسية وokra أو ladys fingers بالإنجليزية هي نوع من الخضر له طعم مميّز ويستهلك بكثرة في المشرق العربي، وحتى في الشرق الجزائري ويسمى “قناوية”. وفي موسمه يؤكل ويجفف بضمه في خيوط على شكل قلائد تعلّق بسقوف المنازل لتستهلك في الشتاء، وتكون له رائحة نفاذة حتى عندما يجف. إلاّ أن كل تلك الروائح قد جفّت في الترجمة عند استبدال “بامية” بكلمة beans حتى لو كان ذلك بقصد التصرف.
والملاحظ أن الترجمة قد أخفقت في جوانب متعددة أهمها: الجانب الصوتي والجانب الثقافي والجانب المرجعي والجانب الإيحائي. بحيث أعطت نصاً بدا لنا بعيداً عن مطابقة المعاني الواردة في الأصل، ناهيك عن أجوائها. فهو على الرغم من مراعاته للمقتضيات اللسانية للغة الإنجليزية، يفتقر إلى كل تلك الصور والروائح المعششة في ذاكرتنا، ويفتقر إلى ذلك الإحساس العميق بالمرارة المكابرة التي نتلمسها على مدى القصيدة.
والتجربة التي نقوم بها حالياً والمتمثلة في ترجمة كتاب عن تاريخ مدينة تلمسان في الفترة الإدريسية كانت في الواقع الدافع الأول في كتابة هذه الورقة. فقد كتب المؤلف عبد العزيز فرّاح الكتاب نظماً باللغة الفرنسية، وطُلب منّا ترجمته إلى العربية نظماً.
وقد تساءلنا في البداية عن جدوى كتابة أو ترجمة نص تاريخي بأبيات مقفّاة. صحيح أن الفلاسفة الإغريق كانوا يكتبون على شكل أبيات ولم يكن المحتوى يتصف بأية شاعرية. لأن النظم كان لغة مستقلة بذاتها، لغة محافظة تتميّز عن النثر الذي كان أكثر شيوعاً. ويرجّح أن يكون سبب ذلك قابلية استذكار النظم على النثر. وربّما صاغ فيثاغورث مبادئه على شكل أبيات “الأبيات الذهبية” للاستعانة بوسيلة استذكارية، أكثر من رغبته في كتابة الشعر. وقد يكون هذا السبب وراء اختيار مؤلف النص التاريخي الذي نحن بصدده للنظم بدل النثر، وإن بعد قرون من أقرانه.
شرعنا في البداية بترجمة حرفية لكل مقطع من المقاطع الرباعية التي يتألف منها النص.
Idriss، accompagné de Rached، son fidèle ami [101]
Y prit son temps avant que vers Tanger، il se dirigea.
Et de fils en aiguille puis de compromis en compromis
Ce fut à Walili qu’il arriva.
تمهّل إدريس قبل أن يتجه صحبة صديقه الوفي راشد صوب طنجة ومن درب إلى درب ثم بين أخذ ورد وصل إلى واليلي:
إدريسٌ خرجَ إلى طنجة مصحوباً بأعزّ خليــــــلِ
راشـــد أوفى أصحـــابهِ يمشي من صبح لأصيـلِ
لكـــن من دربٍ لسبيــلٍ حطّ رحالاً في واليــــــلي
2-
Ishaq el Awrabi، sollicité، royalement il l’accueillit
Sous son toit، et son cœur، il lui ouvrit
Et en tant que descendant du prophète، par Ali،
Le destin religieux de son peuple، il lui offrit.
قصد إسحاق العوربي الذي استقبله بحفاوة بالغة في بيته، وفتح له قلبه، وبصفته من سلالة النبي من جهة علي فقد سلمّه المصير الديني لشعبه.
كمليك قــابلـه إسحـــاقْ وأسكنه فـي القلب مقــامْ
أنزلـه منزلــة الرفعـــة أو ليس سليـل خير أنـامْ؟
لعلـيّ ينتسب أصــــولاً والمـرء لمحتــده قــــوّامْ
ولهذا الشرف المحمـود ولاّه علـى القـــوم إمـــامْ
La belle Kinza، sa fille lui fut donnée en mariage
Et aussitôt Idris se mit à l’ouvrage. [103]
Rapidement Commendeur des croyants، il lui octroya
Et l’islam، un moment، en bénéficia.
زوّجه ابنته الحسناء كنزة، وسرعان ما انكبّ إدريس على العمل{103}، وحصل له على لقب أمير المؤمنين، وعاد ذلك على الإسلام بالخير لفترة من الزمن.
زوّجــه بـابنتـه كـنزة حسناء تسبـي الألبــابْ
وحـثيثــاً رقّـاه العمـل وحباه بأسمى الألقابْ {103}
سمّـاه “أمــير المؤمنـين” بيديـه زمــام الأسبـابْ
فعلا بالإســلام لحـين ورفعـه فعـلاً وخطـابْ
المحاولة الثانية:
زوّجه ابنته كنــــــزة فتنة حوريات الجـــان
حثيثاً أعلاه العمـــــل بوأه صدر الإيـــــوان
سماه أمير المؤمنيـن فعلا بالإســــلام أوان
4-
Il soumit à sa volonté les tribus
Et même nombre de grandes confédérations berbères.
Ainsi soutenu par l’aura du prophète، d’une puissance singulière،
L’unité des rangs autour de lui était tant attendue. [104]
أخضع القبائل لسلطته، إضافة إلى عدد من الزوايا البربرية الكبرى، وساعده في ذلك هالة النبي ذات القوة الفريدة، فلمّ شمل الصفوف حواليه بعد طول انتظار. {104}
فرق وقبائل بدويــةْ خضعت بالقــوّة للسلطانْ
تبعتهـا زوايا من بربرْ من أعلى هامات الأوطـانْ
من هالـة قبس نبـويةْ أتاه المـدد من الرحمــنْ
فالتأم الشّملُ بلمِ الصّفِ وها وقت الوحدة قد آنْ {104}
المحاولة الثانية:
خضعت قسرا للسلطان فــرق وقبــائل بدويـة
تبعتهـا من دون تـوان حشــد زوايـا بـربريـة
أيّده مـدد الرحمــان من هـالة نــور نبـويـة
رصّ صفوفا كالبنيـان دكّـت تفــرقـة أزلـيـة
5-
Il en vint très vite à considérer
Que le pouvoir spirituel qui lui était confié
Pouvait ouvrir le chemin à d’autres horizons
Et à l’abri d’Allah réaliser ses propres ambitions. [105]
وسرعان ما تفطّن إلى ما يمكن أن تمهّده السلطة الروحية الموكلة إليه من سبيل إلى آفاق أخرى تمكّنه بعون الله من تحقيق طموحاته. {105}
ما لبث الفكــر أن اختمرَ بعظيم الحظوة ْالدينيـة ْ
من لـدنِ الحاكمِ والمحكومْ والبركات العلويـــة ْ
فرآها طــرقاً مفتوحـة ْ لبلوغ مآرب شخصية ْ{105}
المحاولة الثانية:
ما لـبث الفكـر أنِ اتقـد بكبـير السطوة الروحيـة
وأتتـه هبـة مـوصوفـة مـن لـدن راع ورعيـة
سبـل تفتـحهـا للــبيب آفـاقـا تبـدو غيبيــة
وبعــون الله وســؤدده يجني أغراضـا شخصية
7-
Et prenant appui sur les tribus berbères fidèles،
Il s’en prit à celle qu’il jugea، rebelles
Il les rangea alors parmi les Infidèles
Et déclara la guerre sainte، le Djihad، contre elles.
بدعم من القبائل البربرية المبايعة (المؤمنة) هاجم تلك التي اعتبرها متمرّدة والتي صنّفها إذّاك في خانة الكفّار، وأعلن عليها الجهاد.
سانده أقوام البربـر ممن دخلوا في الإسـلام
ليقاتل منهم أهل الكفر وأهـل الـرّدة والأزلام
أعلنها حرباً ضاريـة وجهاداً بمضاء حســام
المحاولة الثانية:
سانــده أقوام البربر مـمن أشهر إســلامه
ليحارب منهم من كفر وعـاد فاطر أيّامـــه
شنّ حروبــا ضارية برمح جهـاد وحسامهِ
8-
Il s’en prit d’abords aux tribus qu’il jugea les moins puissantes [106]
Avant de s’attaquer l’année suivante aux plus exigeantes.
Dans les montagnes et les plaines، il en fit un carnage.
Il s’empara de leurs terres et prit leurs enfants en otage.
استهلّ بمهاجمة القبائل التي اعتبرها أقل قوة {106}، قبل أن يهاجم في العام التالي تلك الأكثر قوة. فكانت المجازر في الجبال والسهول، وسلب أراضيهم وأسر أطفالهم.
باشر بمقاتلة الأضعف حتّى يتـهيـّأ للأقوى{106}
ويعدّ العدّة في حـول كي يكسر شوكة من يطغى
في العام التالي هاجمها وأراق دماء لا تحـصى
ما من جبل أو من سهل إلا قـد صـار أديـم وغى
يسلب أرضاً يأسر طفلاً يترك محروماً أو ثكـلى
المحاولة الثانية:
أضعفها كان بدايته كيما يستسهـل أقـواها
ويعدّ العدّة في سنة يقلب سافلها أعـلاها
في كل مكان تترامى جثث ما لاقت مثواها
احتجز قفارا ورواب وصغاراً في الأسر رماها
9-
Avec un acharnement digne des Barbares، il ravagea
Les paisibles pays des Louatas et Médiouna.
Il passa، hautin، sur le corps des Maloula
Et détruisit les citadelles de Kyata. [107]
وبضراوة تحاكي ضراوة الهمجيين دمرّ البلاد الآمنة للواطة ومديونة، ومشى بعنجهية على أجساد أهل معلولة وهدّم قلاع كياتة. {107}
قـد دمـّر مدناً آمنـة ً لقوم لواطة ْومديونـة ْ
المـوت يسير بجـانبهِ ويخلّف أمماً محزونـة ْ
ويدوس على جثث القتلى وقحاً مختالاً ممــنونا
معلولا تذكـر سطوتـهُ وكذا الأصقاع المسكونة ْ
وقلاع كياتة قد أضحت ردماً وركاماً مدفونا{107}
المحاولة الثانية:
دمـــّر مدنـاً آمنـة لأهـل لواطـة ومديونة
يمشي والسيـف يسابقه يستــلّ رؤسـاً مأمونة
ويدوس على جثث القتلى بوقاحة قــدم ملعـونـة
معلومـة تذكـر قسوته وقلاع كيـاتة المدفونـة
10-
En direction de Tlemcen، il leva un bras vengeur،
Décidé à faire payer cher aux tribus réfractaires [108]
Leur écart du droit chemin par Allah، salutaire ;
Mettant en doute son aura et son ardeur.
توجّه صوب تلمسان شاهراً ذراع الانتقام، عاقداً العزم على جعل القبائل المتمردة تدفع الثمن غالياً(108) جرّاء انحرافها عن طريق الخلاص المستقيم الذي سطره الله، وجراء تشكيكها بهيبته وجبروته.
لتلمسان قاد جيوشــاً تشهر أسيافــاً منتقمـه
قد عقد العزم على الثأر ممن عن عروته انفصـم
قبائـل آل تمـرّدهـا أن تدفع مقداراً جمّا{108}
ابتعدت عن نهج الحـق (وبهيبته نسجت وهـما)؟؟
11-
Plein de sagesse et économe de sang entre frères،
Face au digne descendant du prophète vénéré،
L’émir de Tlemcen alla au devant de sa Majesté
Et confia le sort de sa cité، entre ses mains tutélaires. [109]
ذهب أمير تلمسان، بحكمته الواسعة ورغبته في حقن دماء الأشقاء، وامتثل أمام جلالته الذي يعتبر السليل الأكرم للنبي الأعظم، وأودع مصير المدينة بين يديه الحافظتين. {109}
لتلمسـان كـان أميـر بالحكمة والهمــة ينضـح
“لا جدوى من هدر دماء حقن دمــاء الإخوة أفـلح
حاضرتـي ملك ليمينك وبأمـرك أبواب تفتـــح”
وأمـام سليـل الأشراف السلطان بذلك أفصح{109}
12-
Le Calife de Bagdad، voyant sa force si vite، grandir [110]
Contre les Abbassides face aux Omeyyades actifs en Andalousie
Mais ses vassaux Aghlabides au pouvoir، engourdis،
Décida de le faire secrètement périr.
وأمام سرعة تزايد نفوذه، ووقوفه ضد العباسيين في مواجهة الأمويين الناشطين في الأندلس، واضمحلال نفوذ توابعه الحكام الأغالبة، قرر الخليفة في بغداد أن يقضي عليه سراً. {110}
لكّن بقاء الحال محـــال وذيوع الصيت لــه أثمـان
فخليفــــة بغداد توجّس من فرط نفــوذ السلطـان
ودعم رجـالات أميـــة من أحفـاد أبـي سفيــان
فقضى أن يقـتـله سـراً إذ لمـّا وهــن الجيـران
فبنو أغلب كــانوا سندا قبيل خمول الفرسـان {110}
13-
Ne pouvant l’extraire des mains des Berbères، ses pairs،
Ni s’engager si loin de dans une aventure militaire،
Il eut recours à un indigne stratagème، pour lui régler son sort
Et، entre les mains de son espion، il mit le venin de la mort.
وحين عجز عن إبعاده عن أحضان حلفائه البربر، وصعب عليه الدخول في مغامرة عسكرية في ذلك الصقع القصي، التجأ إلى حيلة خسيسة لكي يقضي عليه، فوضع له السم القاتل بواسطة جاسوسه.
لمّا لم يقدر إقصـاءه من حضن البربر حلفاءه
وتعذّر من بعـد البين إرسال جيوش للقــائه
أوعز لخسيس جاسوس أن يخلـط بالسّم غـذاءه
14-
Soleiman، après Kairouan sa vassale، à Walili il arriva.
A l’imam Idris confiant، il se présenta.
Jouant de ses antécédents auprès de la famille، flatteurs
Il entra immédiatement dans ses faveurs. [111]
وصل سليمان إلى واليلي مروراً بالقيروان حليفته، وامتثل أمام الإمام إدريس الذي اطمأنّ إليه بعد أن أجزل المديح والتقريظ لمآثر سلالته، فنال حظوة لديه في الحال. {111}
لواليلي وصل سليمان بُعيد وداع القيــــــروانْ
أجزى إدريساً بمديح ليزيد عليه الاطمئنــــانْ
أطنبَ في ذكر مآثره فاسْتُقبِل فوراً بالأحضانْ {111}
15-
Echappant désormais à la vigilance de Rached، le confident،
Il prépara minutieusement son forfait.
A la faveur d’un moment intime avec l’imam، distrait،
Il lui offrit le fruit de son abjection. [112]
منذ ذلك الحين تخلص من يقظة راشد، حافظ أسرار السلطان، وانهمك في التحضير المتأني لفعلته النكراء. ثم انتهز فرصة اختلائه بالإمام الذي كان ساهياً ليقدم له ثمرة دناءته. {112}
مذّاك استفرد بالسلطـان يصحبه في كـل مكـــان
وتخلّص من حيطة راشد حافظ أســـرار الديــوان
حتّى سنحت لهما خلـوة فانتهز شــرود الأذهــان
لينجز فعلته النـكـراء دون وجود شهود عيان{112}
16-
Kinza، son épouse، encore enceinte à sa mort
Lui donna l’héritier tant attendu pour conjurer le sort.
Idris Thani، son enfant، elle l’appela
Et dans le sérail elle l’éleva et éduqua.
عندما مات، كانت زوجته كنزة حاملاً. وتشاء الأقدار أن تنجب له وريثاً أسمته إدريس الثاني الذي أنشأته وعلّمته في القصر.
كانت كـنزة زوجتــه حـين اختطفتـه الأقـدار
تنتظر المولود المـوعود وريث العهد على الأمصار
أسمته إدريس الثـانــي ورعته بمنأى عن الأخطار
في القصر تعلّم وترعرع حتى إن شبّ زعيماً صـار
17-
Aux commendes l’enfant grandi، déplaça sa capitale، cupide.
Il se défia totalement des Berbères، ses aïeux intrépides.
Il alla même jusqu’à faire assassiner son grand-père
Sous prétexte de connivence avec ses adversaires. [113]
حين كبر الفتى واستلم مقاليد الحكم دفعه الجشع إلى تغيير عاصمته والتخلّص تماماً من البربر أسلافه البواسل. وذهب إلى حد قتل جدّه بحجة أنه تواطأ مع خصومه.{113}
لمّا استلـم زمام الحكـم والجشع بدنياه استـأثر
غيّر عـاصمة إمارتـه وأزاح الأسلاف البربر
وتمـادى في سوء الغيّ واقترف أعاظيم المنكر
قتـل الجـدّ بحجـة أن مع رهط الأعداء تآمر
18-
Empoisonné lui-même، la vie il laissa.
Le fils par la Nefzawa lui succéda
Et sur les conseils de sa grand-mère Kinza [114]
Entre ses douze frères، les provinces، il partagea.
ثم جاء دوره ليموت بالسم ويغادر الحياة الدنيا. خلفه ابنه من طرف آل نفزاوة. وبناء على نصائح جدته كنزة {114} قسّم المقاطعات بين إخوته الاثني عشر.
لكـن الـدنيــا دوارة عصبت عينيه بغشاوة
بالسـم أتـتـه منيـتـه فخلفه ابن من نفزاوة
كـنزة جدّتـه نصحتـه أن يخلو من أي قساوة {114} أن يترك للصلح أتاوة
ويـوزّع أرض ممالكـه بالعدل ومن غير عداوة
ما بين اثني عشر شقيـقاً كي يضمن للعيش حلاوة
19-
Et puis، vaille que vaille، les traces d’Idris subsistèrent
Alors que la région hésitait، inquiète،
Entres les adeptes de Ali، se disant héritier du prophète
Et les Kharidjites، des sectes contestataires. [115]
ومن ثم، وعلى الرغم من كل العقبات، بقيت آثار إدريس ماثلة، في حين كانت المنطقة تتخبط في قلاقل بين أنصار علي الذين يدعون انتسابهم للنبي وبين فرق الخوارج المعارضة. {115}
من ثمّ تـوالـت أحـداث ما بين هوائــج ومـوارج
وبقـى من ادريس الأثـر بقـاء خيـوط عـرى الناسج
سـاد المنطقـة برمتـها قلـق ما أبقـى لـوشـائـج
فـرق تتكـنـّى بعلـي وخصوم يرأسها خوارج{115}
20-
Entre sunnites et kharidjites، partagée ;
Tlemcen avec sa région balança puis، décidée،
Les Béni Ifrèn restèrent dans la voie sunnite
Alors que les Maghila، leurs frères، devinrent les kharidjites. [116]
انقسمت تلمسان وتأرجحت بين السنة والخوارج، ثم قرر بنو إفران أن يبقوا على النهج السني، في حين اختار إخوانهم بنو مغيلة اتباع مذهب الخوارج. {116}
بين الخـوارج والسنّـة قد نـاس أهــل تلمسـان
لكـن للـنهـج السنّـي جـاء قـرار بنــي إفران
وخوارج إخوتهم صاروا ما كـان ذلك في الحسبـان
فبنو مغيلـة هـم قربى أعمام أخوال إخوان {116}
21-
Un souffle nouveau avait déjà، dans le passé، soufflé de Tlemcen
D’où avait surgit Abou El Korra des Béni Ifrèn [117]
Mais، devant la mollesse de la résistance des siens،
Au Zab il se réfugia، brisé mais serein.
كانت رياح التجديد قد هبّت في الماضي من تلمسان حيث برز أبو الكُرّة من بني إفران {117} لكن أمام ضعف مقاومة قومه التجأ إلى زاب مكسور الجناح لكن رابط الجأش.
ما فتئت في الماضي رياح ترفـع رايـات التجــديدَا
وهبت لتلمســان أميـراً مرهوب الجــانب صنديدا
أبو الكُـرّة مـن إفــران لخصومه شكل تهديدا{117}
لكـن خذلتـه فيــالقـه في الساحـة تركته وحيـدا
فانكفأ إلى زاب يسعــى مكسـورأً لكـن غـرّيـدا
22-
Il revint affronter El Aghleb Ibn Souda Temimi
Près de Tlemcen qu’il tenta d’enlever، mais en vain.
Il s’en alla à Tanger، y soulever les Metghari. [118]
Battu de nouveau، il rebroussa chemin.
ثم عاد ليجابه الأغلب ابن سودة تميمي، وحاول أن يختطفه قرب تلمسان لكن دون جدوى. فذهب إلى طنجة لكي يؤلّب المتغاريين{118}، فانهزم مرة أخرى وعاد أدراجه خائباً.
لكـن أبا القــرة آلى أن يرجع ويعيد الكرّة
ويجابه أغلب بن سودة يخطفه على حين غرّة
قرب تلمسان قد حاول وأخفق أكثر من مرّة
ثمّ إلى طنجـة أدبـر ليؤلّب قوم المتغارة{118}
فانهـزم شرّ هـزيمة بالخيبة ولّى أدباره
لم نتمكّن في هذا البيت أيضاً من المحافظة على رباعية الأبيات لكثرة أسماء العلم.
23-
Ainsi allait la situation، vaille que vaille ;
A tour de rôle le pouvoir des uns aux autres، passa.
Au gré de multiples et pénibles batailles
Mais le fonds commun persista. [119]
وهكذا مضى الحال بين كرّ وفرّ. كانت السلطة تؤول لأحدهم تارة لترجع للآخر تارة أخرى. على وقع العديد من المعارك الطاحنة، لكن الجوهر المشترك بقي على حاله. {119}
دار الزمان عليهم ما بين مغلوب وغالب
طوراً تُرجّح كفّة من ثمّ تنقلب المقالب
وبحدّ سيف ينزوي من كان مرهوب الجوانب
دارت معارك حامية للذود عن عرض الأقارب
لابد من ردّ لما قد يروّجه الأجانب{119}
اضطررنا في هذا المقطع إلى الرجوع للهوامش المرقمة التي ذيّل بها الكاتب كل مقطع، لكننا لم نجد ما يفسر الشطر الأخير من الأبيات، فاستعنا بكتب التاريخ لشرحه.
24-
Après les Maghraoua et les Meknaça، les Béni Ifrèn
Etablirent leur empire à partir de Tlemcen.
Et، sous la conduite de Abou Yazid، au courage insolent،
Ils occupèrent toute la région. [120]
بعد أفول نجم بني مغراوة وبني مكناسة، أسس بنو إفران إمبراطوريتهم في تلمسان. ثم احتلوا المنطقة بأكملها تحت قيادة أبي يزيد الشجاع المقدام. {120}
ما لبثت أن غابت شمس المغراوة وبني مكناسة
حتّى عاد بنو إفــران ليقيموا الدولة الحساسة
ملك مترامي الأطراف مبدأه تلمسان الماسة
واحتلوا كل الأصقاع بقيادة أفذاذ الساسة
أبا يزيد الإفراني صاحب إقدام وحماسة{120}
25-
Ifri، ô fils d’Islitèn، fils de Jana، fils de Berr
De Maghraw، tu oublies qu’il s’agit de ton frère،
Et pas à pas، tu lui marchas sur ses terres،
Oubliant que ton peuple a pris son élan à partir d’une tanière. [121]
إفري، يا ابن إزليتن، وابن جانا، وابن برّالمغراوي، أونسيت بأنّ الأمر يتعلّق بأخيك، وقد مشيت على أراضيه خطوة فخطوة، ناسياً أن شعبك هبّ هبّته انطلاقاً من غار. {121}
إفري يا ابن إزلتين وجانا وبرّ المــغراوي
أنسيت بأن الخصم أخوك ومن لك للجرح يداوي
وقد احتليت أراضيه شبراً فوق الشبر يساوي
ونسيت بأن جدودك قد هبّوا من غار صحراوي{121}
الخاتمة
إنّ ما نستخلصه من هذا العمل المضني هو أن علينا أن ننظر إلى النص الأصلي من منظار وظيفته التبليغية الجلية. باعتباره نصاً تاريخياً، وأن لا نتشبّث في محاكاته من حيث بنيته وشكله العروضي. إذ كان من الصعوبة بمكان المثابرة في احترام هاذين العاملين على مدى النص. خاصة وأن فكرة التعامل مع النصوص على أساس وظائفها المتباينة في نص الأصل ونص الوصل قد أضحت تشكّل نقطة ارتكاز في تحليل العملية الترجمية وفي نقد الترجمة على حدّ سواء. وهو ما بدأت به كاتارينا رايس منذ العام 1971 حيث أدخلت العامل الوظيفي في مقاربتها الموضوعية لنقد الترجمة. وبنت في كتابها “إمكانيات وحدود نقد الترجمة “Möglichkeiten und Grenzen der Übersetzungskritik نموذجاً لنقد الترجمة يقوم على العلاقة الوظيفية بين نص الأصل ونص الوصل. كما أعطت تعريفاً للترجمة المثلى على أنها:
«The ideal translation is one in which the aim in the target language is equivalence as regards the conceptual content، linguistic form and communicative function of a source language text.» (]1977 [1989: 112).
ترجمتنا:
“إن الترجمة المثلى هي ترجمة يكون فيها الهدف المنشود في لغة الوصل هو تحقيق التكافؤ على مستوى المحتوى المفهومي لنص لغة الأصل وشكله اللساني ووظيفته التوصيلية”.
بحيث أن الترجمة المثلى هي تلك التي يكون فيها نص الوصل مطابقاً لنص الأصل على مستويات ثلاث:
- مستوى المحتوى المفهومي الذي يشمل المفاهيم والمعلومات والأفكار.
- مستوى الشكل اللساني أي طريقة تحقيق النص من النواحي الدلالية والتراكيبية والأسلوبية.
- مستوى الوظيفة التوصيلية.
وإنجاز ترجمة من هذا النوع يحقق ما تشير إليه “بالأداء التوصيلي التام” integral communicative performance. )[1977]،1989: (114
وقد حاولنا قدر الإمكان استيفاء هذه الشروط للوصول إلى ما تصطلح رايس على تسميته “بالترجمة المثلى” مع مراعاة المتطلبات التالية:
- إعطاء المعنى الدلالي والسياقي نفسه لنص الأصل.
- الوفاء لإيحاءات نص الأصل وإشاراته الثقافية.
- محاولة احترام الشكل العروضي متى أمكن.
- محاولة استيفاء شروط المقروئية الطبيعية Natural readability.
- احترام قصدية كاتب النص الأصلي وتفضيلاته الأسلوبية.
بشكل يمكّن من قياس درجة الانحراف عن النص الأصلي من النواحي المعجمية والدلالية والأسلوبية، وتحديد معيار المقبولية في الترجمة، أي الحد الأدنى الذي يبدأ منه التصنيف التصاعدي لجودة الترجمة.
لكننا لم نتمكّن من رصد الآلية الذهنية التي جعلتنا نأتي بترجمات مختلفة لرباعية بعينها. فقد كانت تفرض نفسها علينا بشكل عفوي قد يفسر بالمعايشة الحميمة للنص، أو لاندماجنا المفرط في إيقاعات يصعب كبحها، أو لعدم الرضى –غير الواعي- عن محاولة سابقة.