مسلمات اللسانيين العرب إزاء المصطلح اللساني الحديث:
إن معاينة المعاجم المتخصصة في مجال اللسانيات تبين لنا أن واضعيها في أغلب الحالات يتصورون أن ضبط المصطلح اللساني الحديث باللغة العربية ليس أكثر من ضبط ترجمة ذلك المصطلح عن اللغات الأوروبية، وبوجه خاص الإنجليزية والفرنسية. فنجد من تلك المعاجم ما يحدد هدفه بأنه يتمثل في “خلق لغة عربية علمية واحدة” ويتم ذلك عن طريق”إعداد مقابلات عربية للمصطلحات العلمية والتقنية باللغات الأجنبية، هذه المصطلحات التي أفرزها التطور السريع الذي لحق بالعلوم والتقنيات في القرن الأخير في البلدان المتقدمة علميا وصناعيا لتصبح قادرة على التعبير عن المعاني الجديدة”[1]، وتستوي أمام هذه النظرة جميع المجالات المعرفية والتقنية بما فيها المصطلحات اللسانية.
يمكن أن نستنتج من العديد من الشواهد التي تتكرر كثيرا في مقدمات المعاجم والقوميس الخاصة بهذا المجال أن واضعيها يبنون تصورهم لمهمتهم ولأهدافهم على عدد من المسلمات لا نعتقد أنها تشكل أساسا متينا لمثل هذا المسعى العلمي، ومن تلك المسلمات يمكن أن نذكر ما يلي:
ـ اللسانيات الحديثة كما تصورها الباحثون والعلماء الأوروبيون والأمريكيون منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى اليوم، هي كل اللسانيات؛ ولا يمكن الاشتغال في هذا المجال المعرفي إلا داخل شبكة تصورات ومفاهيم هؤلاء العلماء والباحثين. وهنا يغض الباحثون العرب الطرف عن الاختلافات الجوهرية بل التناقضات والمراجعات التي تكاد تنتقل في بعض الأحيان، لدى أصحابها من العلماء الأوروبيين والأمريكيين، من النقيض إلى النقيض والتي كثيرا ما يشير إليها العلماء والباحثون الغربيون أنفسهم على اعتبار أنها من العقبات الحقيقية التي تعيق تطور البحث اللساني، وهو ما يسميه جورج مونان بالقلق الاصطلاحي “le malaise terminologique”[2] ويسهب في تحليله وتعليل مظاهره والبحث عن جذورها في سيكولوجيا الباحثين وقيمة إسهاماتهم في مجال اللسانيات الحديثة.
ـ دور الباحث العربي اليوم في هذا المجال هو دور المتعلم فقط وفي أحسن الأحوال هو دور المترجم والشارح الوفي. والأحسن من ذلك كله أن يتحول التلميذ العربي، بعد مكابدات طويلة، إلى أستاذ يجيد تدريس المادة اللسانية التي يحسن تلقيها من مصادرها. ولا يهم على الإطلاق مدى ارتباط تلك المادة اللسانية النظرية باللغات التي أنتجت داخلها. فهنا يعتمد المترجمون على مسلمة جزئية مفادها أن اللسانيات علم نظري مجرد لا يرتبط بخصوصيات لغة معينة، على الرغم من كون هذا المذهب، الذي اجتهد فيه ممن اجتهد، علماء اللغة الدنماركيون، وأبرزهم لويس هيلمسلاف، لكنهم لم يقدموا أكثر من فواتح وفرضيات عمل بسيطة وغير حاسمة على الإطلاق. ولعل ذلك يرجع، كما يؤكد جورج مونان، إلى أن تجميد المصطلح العلمي هو في الحقيقة تجميد للبحث العلمي نفسه[3].
ـ قائمة المصطلحات اللسانية قائمة مغلقة وموحدة لدى العلماء والباحثين الأوروبيين والأمريكيين، أو على الأقل يمكن التعامل معها على هذا الأساس، ويسيء الباحثون العرب الناقلون لذلك الفكر عندما يترجمون مصطلحاته بفوضى تجعل من الصعب تلقي تلك الترجمة التلقي نفسه من طرف كل القراء العرب في جميع البلاد العربية حتى لنكاد نقول إن العمل المعجمي الخاص بمصطلحات اللسانيات عند الباحثين العرب، يهدف، على ما يبدو، إلى تكوين القراء الجيدين للبحوث والنظريات اللسانية الحديثة، وفي أحسن الأحوال، كتاب عروض أمناء يقدمون الفكر اللساني الحديث باللغة العربية. غير أن ما يمكن أن تنطبق عليه خاصية التوحيد هو فقط جزء من المصطلحات اللسانية وهو المتعلق بالتفاصيل التقنية البسيطة التي يمكن التحكم في معانيها.
ـ من الممكن جدا تقديم ترجمة نهائية ودقيقة وواضحة لتلك المصطلحات، تغني الطلبة والباحثين عن النصوص الأصلية وتوفر لهم أداة عملية لتحصيل مادة اللسانيات الحديثة، المنتجة في أوروبا وأمريكا، تحصيلا جيدا يساعدهم على فهم وطرح ومناقشة وربما معالجة الإشكاليات التي تطرحها اللغة، وربما اللغة العربية أيضا، بالمستوى العلمي وبالتحكم المنهجي نفسه الذي يبدو عليه البحث اللساني الحديث في أوروبا وأمريكا. على الرغم من كل الأصوات المتعددة والمتذمرة من المأزق الذي وصل إليه البحث اللساني الحديث في الأكاديميات التي أنتجته.
على هذه المسلمات يبني “المعجميون”، أو “اللسانيون” العرب تصوراتهم لمعاجمهم المختصة في المصطلح اللساني. وبالتالي يقدمون قوائم من المصطلحات والعبارات التي تقابل المصطلحات المكرسة في المعاجم والبحوث المكتوبة في غالب الأحيان باللغة الإنجليزية أو الفرنسية.
في نهاية الأمر نجد أنفسنا أمام قوائم طويلة تتكون من عشرات المئات من المصطلحات “التقنية” التي يفهمها أو يعتقد فهمها باحثون تلقوا تكوينهم باللغات الأجنبية التي يترجمون منها. يعني أنهم أنفسهم لا يفهون تلك المصطلحات ولا يبنون لها تصورات في أذهانهم، وبالتالي لا يستطيعون توظيفها في بحوثهم ومحاضراتهم، إلا باللغات الأصلية. إنهم يريدون منا أن نستوعب باللغة العربية ما يعجزون هم أنفسهم عن استيعابه بها.
يجب أن نمتلك ما يكفي من الجرأة كي نصارح أنفسنا ونعترف بأن قواميس المصطلحات اللسانية المترجمة لا تعني شيئا لمن لا يتقن اللغة المترجم منها. ولنطرح السؤال إذا كان بذل مزيد من الجهد لفهم تلك الترجمات أقل تكلفة فعلا من بذل الجهد في تنمية قدرات الباحثين والطلبة على تلقيها من المعاجم الأجنبية مباشرة؟ وربما نواجه سؤالا أكثر إحراجا وتطلبا للجهد، وهو المتعلق ببلورة معجم لساني يستثمر المصطلحات العربية المنتجة في إطار ما كان يسمى بعلم العربية في الوقت نفسه مع المصطلحات الحديثة؟
لنفكر في أجيال كاملة من الطلبة والباحثين تلقوا الدرس اللساني الحديث ومصطلحاته باللغة العربية خلال النصف الثاني من القرن الماضي بكثير من “الفوضى”، ولنفكر في تراكم تلك الفوضى لديهم، وعلى وجه الخصوص الذين اكتفوا باللغة العربية كمعين لمعرفتهم بهذا العلم، ولنفكر بالمغالطات التي يكونون قد نقلوها لأجيال من الطلبة والأساتذة الذين ينتشرون اليوم في جامعاتنا وتنتشر كتبهم في مكتباتها. لنفكر في التخريجات التي يضطر إليها هؤلاء والمتمثلة في “الاستعانة بالطلاء اللساني [الحديث] لترويج القديم في غلاف جديد”[4] فهذا “الفهم المشوش والمحرف للمفاهيم اللسانية الحديثة ومن ثم الخطأ في إقحامها على بنية العربية”[5] لا يمكن أن يكون توطينا حقيقيا للمعرفة اللسانية الحديثة في الجامعات ومراكز البحث العربية.
واقع بحثي مغاير للمعتقدات:
أشرنا في الفقرة السابقة إلى شواهد تؤكد أن اللسانيات الحديثة ذاتها تعلمنا أن ضبط المصطلح اللساني هو عمل يتم داخل اللغة نفسها، ولا يمكن أن يتجاهلها أو يحاول تطويعها ليثقل كاهلها بمفردات وعبارات واشتقاقات تشكلت داخل لغات أخرى تختلف عنها في البنيات والتراكيب وقواعد الاشتقاق والقواعد الصوتية والتشكيل الدلالي.. إلخ، كما أن المصطلح اللساني جزء من اللغة نفسها، فهو لغتها الواصفة، ولا يمكن أن يستعار جاهزا من خارجها، بل لا يمكن إلا أن يتشكل بداخلها وبما لديها من إمكانيات دلالية وصوتية وتركيبية.
تعلمنا اللسانيات الحديثة أن الدرس اللساني المعاصر، وهو ما نسميه باللسانيات الحديثة، قد ولد حاملا معه قائمة من الأزمات، ولم يخرج بعد من أزمنة التأزم. يعني أن المصطلح اللساني الذي يهمنا في هذا النقاش، لم يعرف الاستقرار، ولن يعرفه، ولعل هذا من طبيعة العلوم الإنسانية كما تتصورها الإبستيمولوجيا منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ويزداد التأكيد على هذه الخاصية يوما بعد يوم. لأن طبيعة البحث اللساني نفسها، حسب المواصفات الراهنة، تجعل منه بحثا مصطلحيا متجددا، ومشككا في نتائجه، ومراجعا لها بصورة مستمرة. فقد أصبح من النادر أن نصادف بحثا نظريا في اللسانيات لا يأتي بجديد مفهومي أو مصطلحي؛ وليست هذه الحقيقية خافية عن واضعي معاجم المصطلحات اللسانية، إذ نجد من يتلمس هذا الواقع معبرا عنه كالتالي: “هناك مصطلحات تنطبق على لغة ولا تنطبق على لغة أخرى، وكثيرا ما نجد مصطلحا واحدا يختلف معناه من ألسني إلى آخر، كما أن المعنى الواحد قد يكون له أكثر من مصطلح واحد للغويين عديدين”[6]. لكن هذا لم يمنع المشتغلين في مجال ضبط تلك المصطلحات من التمسك بالهدف الأول المتمثل في “إيصال ما استجد في هذا الحقل من بحوث ودراسات في العالم الغربي، وذلك عن طريق التعريب والتأليف”[7] باعتبار ذلك من وسائل التطوير العلمي للمجتمعات العربية.
تعلمنا اللسانيات الحديثة أنها تتنوع وتتعدد بعدد اللسانيين، وما أكثرهم الآن، وما أكثر ما يصر كل منهم على أن يختلف عن غيره ولو عنوة، وغالبا من تكون وسيلة إبراز الاختلاف والتأكيد عليه، بل والمبالغة فيه، هي المصطلح اللساني بالذات. فلم يختلف اللسانيون في تحديد موضوع العلم فحسب، بل هم يختلفون أيضا، وربما أكثر، في أدوات البحث اللساني: المفاهيم والمناهج. في حين يصر “اللسانيون” العرب على البحث عن لسانيات واحدة موحدة وواضحة، مثل تصورهم للوحدة في أي من العلوم الطبيعية والعلوم التجريدية (على الرغم من أن هذه العلوم أيضا تعرف الكثير من الاختلافات الجوهرية ولكننا في أطار تخصصاتنا الاجتماعية لا ننتبه إلى تفاصيلها، ونكتفي بالإعجاب بالمنتجات التقنية التي نعتقد أنها وليدة تلك العلوم).
أمام هذا الواقع لا يجد المشتغلون بالبحث في اللغة العربية، من نحويين و”معجميين” ودارسي تراث، حيلة غير الانغلاق على أنفسهم في سياج التراث كما تلقوه، وبالنقائص التي تركها عليه الشراح والملخصون والمختصرون وشراح تلك الملخصات والحواشي والشروح .. إلخ، فهم ربما لا ينافقون غيرهم ولا يخدعون أنفسهم بل يجدون نوعا من الانسجام المريح في التعامل مع نصوص “مكتملة” لا تتطلب منهم غير الحفظ الأصم.
هناك مجموعة من العوامل المعروفة أدت إلى إحاطة هذا الجانب من البحث بنوع من الحماية المطمئنة، ولعل أهمها العامل الديني وما يقتضيه التعامل مع النصوص المقدسة من استقرار في التصورات والمفاهيم والمصطلحات اللغوية الواصفة، ومن انغلاق للمعجم، ومن بناء للمصداقية على القدم.
لن يكون هذا بطبيعة الحال مبررا للانتقاص من القيمة الإجرائية، المرحلية على الأقل، التي تتمتع بها جميع الجهود المعجمية التي حاول ويحاول أصحابها تلبية حاجة حقيقية لدى القراء والباحثين، وبغض النظر عن درجة نجاحها في تلبية تلك الحاجة، يجب الاعتراف بأنها مرحلة من تاريخ تطور اللسانيات في جامعاتنا كان لا بد أن نعيشها بكل سلبياتها وإيجابياتها وبكل المعاناة التي تكبدها واضعو تلك المعاجم لنصل اليوم إلى التفكير في ما بعد هذا الجهد المعجمي، ولنطرح السؤال: أين هو معجم المصطلحات اللسانية العربي؟
موقف النظرية الخليلية الجديدة:
تقترح النظرية الخليلية الجديدة الخروج من تلك الصياغة الإشكالية غير المنتجة؛ وقد أكدت العشريات المنصرمة عقم هذه الإشكالية وعجزها عن إنتاج أية فرضية عمل يمكنها أن تساهم في تطوير البحث اللساني في جامعتنا وعقد صلح بين ذلك البحث وبين مشكلات الواقع اللغوي كما تعانيه و”تطرحه” مجتمعاتنا العربية. وهي تقترح فهما جديدا للتراث اللساني (النحوي) العربي، لا ينطلق من أبنية تصورية متلقاة، جاهزة، من الاجتهادات اللسانية الغربية الحديثة، وفي الوقت نفسه لا ينطلق من انتصار شوفيني قبلي التصورات، لفائدة التراث اللساني العربي باعتباره كلا متكاملا منسجما ومنتهيا. فالتراث اللغوي العربي لا يشكل كلا واحدا منسجما، فالنظرية اللسانية العربية الأصيلة نظرية متماسكة لكن يجب عدم خلطها بالكتابات المتأثر بالمنطق الأرسطي والكتابات المتأخرة التي خرجت عن تلك النظرية[8].
نعتقد أن الفكرة الخلاقة في موقف النظرية الخليلية الجديدة من التراث تتمثل في نزع صفة التراث عنه وإخراجه من القيمة المتحفية والغرائبية التي أصبح العلم الحديث ينظر بها إليه، والتعامل معه على أنه إنتاج معرفي يملك آليات تطوره وأدوات اشتغاله وتصوراته ومفاهيمه وأدواته المنهجية التي لا يمكن أن تبرز قيمتها الحقيقية إلا من داخل ذلك التراث نفسه ولكن بواسطة القراءة العالمة.
هذه الفكرة الخلاقة هي التي أوصلتنا إلى رسم حد فاصل بين ما يمكن أن يسمى نظرية لسانية عربية لها قيمتها العلمية في سياقها التاريخي والذي يمكن أن يستمر إلى اليوم، عندما نحسن تلقيها ونتعامل معها بروح مبدعة، وهي نظرية يتمثل متنها المركزي في الخطاب المنسوب إلى الخليل ابن أحمد الفراهيدي، وبين كتابات نحاة القرون المتأخرة والتي لم تتميز بأي إبداع، بل ولم تحسن تلقي تلك النظرية ولم تساهم لا في إثرائها ولا في نقلها بالانسجام الذي اتسمت به أثناء إنتاجها.
مع هذه الأطروحة نكتشف أن المصطلح اللساني العربي عند الخليل وابن جني والعلماء الذين ساهموا في تأسيس ما كان يسمى بعلم العربية وأثروا البحث التطبيقي فيه، لم يكن يتسم بأية ارتجالية يمكن أن نحكم بها قبليا عليه فقط لأنه يحمل صفة التراث، بل هو عمل علمي، بالإضافة إلى قيمته التاريخية، يتمتع بقيمة علمية إجرائية ويمكن أن يصبح منتجا إذا أحسننا قراءته.
من وجهة النظر هذه، نكون أمام بناء نظري يرتبط في نشأته بالمرحلة التاريخية التي أفرزته، لكنه في بنائه وآليات اشتغاله مرتبط أكثر باللغة التي نشأ فيها ومن أجل وصفها وتفسير ظواهرها. يعني أنه يتجاوز مرحلة نشأته لتستمر قابلية العمل به ما استمرت اللغة العربية في الاستعمال.
لذلك تتمثل “القطيعة” المعرفية التي تحدثها هذه النظرية، لمن يستهويه التعبير عن التحولات الإبستيمولوجية الكبرى بهذا الوصف، في تغيير الموقف، وخاصة موقف الباحث اللساني العربي، من التراث اللساني العربي. والخروج من المراوحة العقيمة بين التقديس السطحي المفرغ من أية أدوات علمية أو حجاجية مقنعة والرفض المبدئي غير المبرر والذي إما أن يجرد الفكر اللساني المنتج داخل اللغة العربية من أية قيمة علمية ويتعامل معه على أنه مادة تزيينية للتندر اللطيف على هامش الدرس اللساني، أو يضع حدا زمنيا لقيمته العلمية ويفرض على اللغة العربية الراهنة، وعلى المجتمعات الناطقة بها، أن تتشكل رغم أنفها وفق ما يناسب الإشكاليات والمفاهيم التي يصوغها اللسانيون الأوروبيون والأمريكيون. بحث قد يحتاج البحث اللساني العربي أن يجد لنفسه علاقة ما بما يسميه الأوروبيون باللغة الهندية الأوروبية، أم اللغات الأوروبية المفترضة. وأن يبحث لنفسه عن لاتينية يبني على أنقاضها تمرده وعلى أشعار لهجاتها مستقبله اللساني.
تقدم هذه الأطروحة قائمة المصطلحات اللسانية[9] الأساسية التي استعملها اللسانيون العرب قديما، وتنتج حولها خطابا علميا يستثمر البحث اللساني في هذا المجال الذي أنجزه الباحثون العرب والمستشرقون، وتبين أنها مصطلحات لا تقل دقة وجدية عن أي مشروع علمي متكامل يحدد موضوعه بنضج إبستيمولوجي غير مسبوق ويضبط مفاهيمه النظرية والإجرائية وفقا لطبيعة الموضوع ومتطلبات إشكاليته المحورية وأسئلته الفرعية.
لا يتسع هذا البحث لطرح أو مناقشة ما توصلت إليه الأطروحة المذكورة من نتائج متعلقة بالنظرية اللسانية العربية القديمة، فنحن هنا نهتم فقط بقيمة المصطلحات اللسانية التي اهتمت بها تلك النظرية، ونركز بشكل خاص على علمية تلك المصطلحات وبنائها النسقي الناتج عن الأساس الرياضي[10] و”المنطقي” الداعم لها. وهو ما نجده عند واحد من أكثر المشاريع اللسانية الحديثة تجريدا ونسقية[11]. فقد قدم العالم الدنماركي لويس هيلمسلاف نظريته ـ أو مشروع نظريته ـ المسماة بالغلوسيمية من خلال جهاز مصطلحي ومفاهيمي متماسك رأى أنه من غير الممكن أن تتأسس الدراسة اللسانية العلمية إلا عليه، على اعتبار أن طبيعة اللغة التجريدية تقتضي أن تتأسس النظرية اللسانية كعلم تجريدي مثل أي نسق منطقي أو رياضي، وليس كعلم تجريبي يقوم على الاستقراء، ويحتاج إلى أن تؤكد التجارب ما يصل إليه من قوانين.
غير أن الفرق كبير بين مصطلحات حلقة كوبنهاغن ومصطلحات مدرسة الخليل. فالأولى صيغت من منطلق نظري يسعى إلى تحقيق نوع من التماسك الداخلي بينما كانت المصطلحات الخليلية قد تشكلت في إطار البحث الميداني والمعاناة الملموسة مع السؤال اللساني والبناء العملي، بل المعملي أيضا، لنسقه النحوي وجهازه المعجمي.
ربما تجعلنا قدرتنا المحدودة على التعاطي مع الخطاب الخليلي نعتقد أن مصطلحات علم العربية عند الخليل وابن جني وأتباعهما لا تغنينا عن المصطلح اللساني الحديث، فهي من الناحية التاريخية لا يمكن أن تخرج عن سياقها الزمني إلا بقراءة مبدعة، عالمة، لكن الملموس بين أيدينا هو ما تعانيه المصطلحات اللسانية الحديثة من عجز عن استيعاب ما يطرحه الواقع اللساني في مجتمعاتنا من أسئلة، بل وفي مجتمعاتها أيضا. فالغلوسيمية لم تعرف إقبالا تطبيقيا في مستوى ما كانت تعد به، كما لم تخرج فرضيات تشومسكي عن كونها طريقة لوصف الألسنة بهدف توضيح الدرس اللساني، ورغم المحاولات الكثيرة لاستثمارها في تثوير فهم ووصف الأنساق اللسانية، لم يستطع أتباعها النزول عن المستوى النظري الواصف إلى المستوى النظري المعالج للأسئلة العملية، ثم إلى المستوى العملي. ولم يستطع أحد تجاوز الجهاز المصطلحي الموروث عن قرون من الممارسة النحوية والصرفية والدلالية والصوتية.
مخرج البحث اللساني المقارن:
نعتقد أن البحث اللساني المصطلحي المقارن يستطيع أن يحل مشاكل اللسانيات العربية مع المصطلح، وبالنتيجة، مع بقية جوانب اللسانيات كعلم. وإذا سلمنا بأن البحث اللساني العربي لا يستطيع تجاهل المصطلح الغربي الحديث ولا المصطلح العربي القديم، وفي الوقت نفسه لا يجد مفرا من تقبل حيوية المصطلح الحديث وإبداعيته المتجددة من جهة، والتعامل من الجهة المقابلة، مع الإبداعية الممكنة/الكامنة، للمصطلح العربي القديم، إذا سلمنا بهذا وذاك، سنضطر إلى مواجهة سؤال العلاقات الممكنة بين الجهازين المصطلحيين، لكن هذه المواجهة، والتي هي حاصلة الآن، ومنذ بداية التعامل مع اللسانيات الحديثة، بدرجات متباينة من الوعي والوضوح، تتطلب بحثا متخصصا مجاله مفاهيم وما صدقات المصطلحات اللسانية المتاحة الآن للباحث العربي، والتي شئنا أم أبينا، هو يتعامل معها، بشكل أو بآخر. مما يشجع على مثل هذا البحث، ذلك الكم الهائل، المتوفر للباحثين، من المخطوطات وكتب التراث المحققة، ومن بحوث ومؤلفات لسانية حديثة لا يمكن للباحث العربي أن يتجاهلها ولا أن يستمر في التعامل معها وفق ما يتيحه الهوى وتأتي به الصدف.
نعتقد أنه من قلة الجدية العلمية، بل من العبث، أن نستمر في البحث عن مقابلات عربية بكثير من المشقة، لمصطلحات لسانية حديثة غير مستقرة، تعبر عن ظواهر ووقائع لسانية، نعتقد أنه من الممكن جدا أن يكون اللسانيون العرب قد عبروا عنها بمصطلحات غاية في الدقة والوضوح. وربما لا يقتصر مثل هذا الخيار البحثي على المصطلح اللساني، لكننا في إطار البحث اللساني نواجه عقبة معرفية حقيقية أمام ظواهر لسانية لا نستطيع مجرد الانتباه إليها فقط لأن اللسانيات الحديثة لم تستطع تصورها ونحن لا نملك الأدوات التي تؤهلنا لاستثمار التراث العربي الذي يعالجها بصورة علمية.
يمكن هنا أن نقدم مثالا على ذلك من البحث الذي قدمه د. زلاقي رضا حول حروف القلقة وحول صفة القلقة كما تناولها اللسانيون العرب، وأثبتها باستعمال أدوات القياس المخبرية والتحليل الطيفي، التي توفرها الصوتيات الفيزيائية[12]. مثل هذه الظاهرة لا تجد مكانا لها في تصور الباحثين الأوروبيين ولا في أنساقهم المعرفية الصوتية، ولذلك يستحيل على الباحث العربي المنكفئ على نفسه داخل التيارات اللسانية الحديثة أن ينتبه إليها.
يهدف مثل هذا البحث المقارني إلى إخراج المصطلح اللساني في اللغة العربية من التبعية السطحية وغير الوظيفية، إي المعطلة، للمصطلح اللساني الغربي، وإقامة مصالحة حقيقية مع المصطلح اللساني العربي القديم، وبالتالي التخلص من الاستعمال اللفظي العام ذي الدلالة المرتجلة لمفردات تقدم للقارئ العربي على أنها مصطلحات لسانية وهو في كثير من الحالات يجتهد ليرتجل لها دلالات من مخزونه الدلالي المفارق للحمولة المفهومية التي تحاول المصطلحات الأصلية أن تنقلها. ولهذا يمكن للبحث اللساني العربي أن يتجاوز مرحلة الدهشة أمام البحث اللساني الغربي والركض المستمر وراء مفاهيم يمسك بها دائما متأخرا بعدة سنوات وكثيرا ما يمسك بها بعد أن يتخلى عنها واضعوها. فيخرج من جحيم هذا السعي المتأخر أبدا إلى مرحلة من التفاعل الراهن مع اللسانيات الحديثة باعتباره طرفا راهنا فيها قادرا على استيعاب أسئلتها وصياغة إشكالياتها وتطوير العلم وفق ما تتطلب خصوصياتها.
[1] ـ المعجم الموحد لمصطلحات اللسانيات، 1989، ص 6.
[2] – Dictionnaire de la linguistique، Puf، Paris 1974، p. xii.
[3] – Ibid.
[4] ـ سعد عبد العزيز مصلوح، اللسانيات العربية المعاصرة والتراث: حصاد الخمسين، (1997) ضمن “في اللسانيات العربية المعاصرة” عالم الكتب، القاهرة 2004، ص 17-37
[5] ـ المرجع السابق.
[6] ـ معجم المصطلحات الألسنية، مبارك مبارك، بيروت 1995، ص 5.
[7] ـ معجم مصطلحات علم اللغة الحديث، بيروت 1983، ص ح.
[8] ـ عبد الرحمان حاج صالح. مستقبل البحوث العلمية في اللغة العربية وضرورة استثمار التراث الخليلي، ضمن “بحوث ودراسات في اللسانيات العربية”، ENAG الجزائر 2007 ص 44- 57.
[9] – Hadj-Salah Abderrahman. Linguistique arabe et linguistique générale. Thèse، Paris-Sorbonne (Paris IV) 1979. (Polycopie).
[10] ـ محمد صاري، المفاهيم الأساسية للنظرية الخليلية، مجلة اللسانيات، عدد 10 سنة 2005، الجزائر 2005.
[11] ـ جمال بلعربي. الأسس الإبستيمولوجية لسيميائية هيلمسلاف من خلال مشروعه التأسيسي حول نظرية اللغة. رسالة دكتوراه، جامعة الجزائر 2، الجزائر 2012 (مخطوط).
[12] ـ صفة القلقلة وحروفها بين القدماء والمحدثين ـ دراسة فيزيائية. مجلة اللسانيات. عدد 14 و15 سنة 2008 و2009. الجزائر 2009.